كانت النبوّات في كلّ عهد انطلقت فيه، موضع جدل ونقاش في المجتمع الذي تعيش فيه، باعتبارها حَدَثاً غير عادي في حياة النّاس، لأنَّها ليست مجرّد دعوة تغييريه تتحرّك على أساس بشري يخضع لما يخضع له البشر ـ عادة ـ من إمكانات وطاقات، وقوّة وضعف.. بل هي دعوة تتميز بارتباطها بما وراء هذا العالـم، من خلال الوحي الذي هو ظاهرة غير عادية، لأنَّه يمثّل الاتصال غير المنظور بالقوى غير المنظورة، لأنَّها ليست من عالمنا هذا، بل هي من عالـم آخر يختلف عنّا في شكله وفي طبيعته. وهي ـ في هذا المجال ـ لا تخضع لأيّ ضعف في الصدق والصواب والانسجام مع المصلحة الأساسية للحياة لأنَّها من اللّه العالـم بما يصلحهم ويفسدهم.
وقد شاركت هذه المِيزة التي تتميَّز بها النبوَّات عن الدعوات الأخرى في إثارة العديد من علامات الاستفهام التي اتخذت لنفسها طابعاً جدلياً عنيفاً، لـم تقتصر آثاره على الكلمات التي تُثار في هذا السبيل، بل امتدت إلى المواقف العملية التي تحوَّلت إلى رفض حاسم للأشخاص الذين تتجسَّد فيهم فكرة النبوّة وتتحرّك معهم.
ففي البداية، ووجه أكثر الأنبياء بتصوّر النّاس حول شخصية النبيّ، وما يجب أن تكون عليه هذه الشخصية.. فإذا كانت النبوَّة حدثاً غير عادي، فيجب أن تتجسَّد في شخص غير عادي.. ولهذا فإنَّ من الضروري أن لا يكون النبيّ بشراً ما دامت النبوَّة مرتبطة بغير عالـم البشر.. وما دامت طرق الاتصال غير بشريّة.
ومن هنا وُلدت فكرة رفض تصديق الأنبياء، لأنَّهم بشر مثلهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق.. وهذا الأمر لا ينسجم مع التصوّر العام للنبيّ الذي يجب أن يكون ملكاً من السماء ليصلح لحمل رسالة السماء.
وينطلق ـ بعد ذلك ـ سؤال ثانٍ في هذا المجال، فقد نتقبَّل فكرة النبيّ البشر، ولكن لا بُدَّ أن يكون إنساناً غير عادي.. يتميَّز بقوى خارقة تحمل ظلال الألوهية في قدراتها، وإن لـم تكن لها هذه الصفة.. لأنَّ اتصالها المباشر باللّه، وحملها الرسالة منه بطريق الوحي يفرضان ذلك كلّه.
وفي ضوء ذلك،كانت علامات الاستفهام تتكاثر وتتنوَّع حول الأنبياء الذين لا يتميَّزون عن الإنسان العادي بشيء في قدراتهم وأوضاعهم العملية في الحياة.. ولذلك لا نجدهم يستجيبون لأيّ اقتراح من الاقتراحات التي تُطلب منهم، في القيام ببعض الأعمال، أو في إيجاد بعض الظواهر الخارقة في الحياة.
أمّا رسالة الإسلام إلى جانب علامات الاستفهام هذه، فقد جابهت في شخصية النبيّ محمَّد (ص) علامات استفهام من نوع آخر، تعرضت للنبيّ (ص) وواجهته بأسلوب بعيد عن المنطق والمعرفة الواعية الهادئة، فاعتبرت أنَّ ما جاء به سحر، ولهذا أعطته صفة الساحر.. وبأنَّه شعر يتخذ لنفسه صفة الشاعر، وأنه يجمع أساطير الأولين التي اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً.. وتفاعلت القضية وتحوّلت إلى حالة من الحقد، شبيهة بالتشنجات الانفعالية، فكان الوصف بالجنون.
ونحن لا ندّعي اختصاص هذه الصفات بنبيّ الإسلام، لأنَّ القرآن قد أشار في بعض الآيات إلى أنَّ الأنبياء بشكل عام قد حوربوا باتهامهم بالجنون، كما جاء في قوله تعالى: {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسولٍ إلاَّ قالوا ساحرٌ أو مجنونٌ} (الذاريات:52)(ص). ولكنَّنا نقول إنَّ هذه الأمور كانت بارزة في موقف أعداء الإسلام من الرسول.
وقد واجه الرسول هذا كلّه بأسلوب رسالّي هادئ، ينطلق من الثقة العميقة بنفسه وبرسالته. ومن خلال تفهّمه ووعيه للظروف والدوافع والتصوّرات التي شاركت في ولادة علامات الاستفهام الرافضة التي واجهت رسالته وأساءت إلى شخصه، بحيث كان للتصوّر المنحرف لمعنى النبوّة وللعوامل الاجتماعية والذاتية التي كانت تقود خطى المعاندين نحو معاندة الحقّ الذي أطلقه، ولغير ذلك، الأثر الكبير في هذا كلّه.
وعلى هدى ذلك، بدأ الحوار معهم، من أجل أن يقودهم إلى تصحيح المفهوم الخاطئ الذي يحملونه عن النبوّة ودورها في الحياة، وكشف ما التبس عليهم من فهم لشخصية النبيّ وطاقاته، وما يتعلّق بطبيعة الرسالة ومواصفات القرآن، عدا تصويبه للأفكار التي ألصقت بعض المواصفات بشخصه، التي كان للأجواء المحمومة والانفعالات المتباينة دورٌ مهمٌ في إيجاد مثل هذه الأفكار والتصوّرات الخاطئة.
أمّا الفكرة الأولى التي تتحدّث عن العلاقة بين النبوّة والبشرية، فقد تعاطى معها النبي محمَّد (ص) ـ كما صورها اللّه في القرآن الكريم ـ بأسلوبين:
الأسلوب الأول: محاولة عرض الفكرة من خلال تاريخ النبوّات، وطريقة الحوار الذي كان يدور في حياة الأنبياء السابقين مع خصوم الرسالات.
الأسلوب الثاني: محاولة إدارة الحوار ـ بشكل مستقل ـ حول الفكرة التي تتحدى النبوّة من خلال هذا التصوّر المنحرف في شخصه.
ونواجه ـ في الأسلوب الأول ـ الآيات التالية التي تتحدّث عن الأنبياء السابقين الذين كانوا محل احترامٍ لدى المجتمع العربي الذي ولدت فيه الرسالة.. ولا مانع من فرضية أنَّهم كانوا يؤمنون بهم كأنبياء، فقد تحدّثت هذه الآيات عن رفض الأمم السابقة لهؤلاء الأنبياء من خلال صفة البشرية التي كانت لا تنسجم مع صفة النبوّة حسب زعمهم.. ولكنَّ النبوّة كانت تفرض نفسها في نهاية المطاف من خلال مواقفها ومعاجزها الخارقة للعادة التي قام بها أولئك الأنبياء.. ما يوجب تحطيم المفهوم الخاطئ الذي كانوا يحملونه في أفكارهم.
ففي حديث القرآن عن نوح وقومه يقول اللّه تعالى: {فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلاَّ بشراً مثلنا وما نراك اتَّبعك إلاَّ الذين هم أراذِلُنا بادي الرّأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنُّكم كاذبين * قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بيِّنة من ربِّي وآتاني رحمةً من عنده فعُمِّيَت عليكم أنُلزِمُكُموها وأنتم لها كارهون}[sub] (هود:27ـ28).
وفي آية أخرى.. تتحدّث عن أسلوب نوح ـ في حواره معهم ـ حول تجريد مفهوم النبوّة في واقعها الأصيل من فكرة القدرات الخارقة التي يتمتع بها النبيّ، أو صفة الملائكية غير البشرية: {قل لا أقولُ لكم عندي خزائن اللّه ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إنّي ملك} (الأنعام:50).
وتصرّح بعض الآيات بفكرة النبيّ ـ الملك التي كانوا يزعمونها كأساس لرفض دعوته: