والمرأة الأخيرة هي بيت القصيد ، وهي أم زرع التي سمي الحديث بها
قالت أم زرع : ( زوجي أبو زرع فما أبو زرع ! ) ، هل تعرفون شيئاً عن أبي زرع ؟ . وحيث إننا لا نعرف شيئاً عن أبي زرع، فهي تعرفنا من هو أبو زرع. تقول : ( أناس من حلي أذني ، وملأ من شحم عضدي ) . هذا كله غزل ، ( أناس من حلي أذني ) : النوس يعني الاضطراب والحركة ، ومنه الناس ؛ لأنهم يتحركون ذهاباً وإياباً . ومنه الحديث الذي في البخاري ، قال ابن عمر: ( دخلت على حفصة ونوساتها تنطف) ، النوسات : هي الظفائر ، تنطف : يعني تقطر ماء ، فقد كانت مغتسلة ، وإنما سميت الظفيرة بهذا الاسم لأنها تتحرك إذا حركت المرأة رأسها . ( أناس من حلي أذني ): أي: ألبسها ذهباً في آذانها ، وهي تتحرك، فالذهب يتحرك في آذانها بعدما كانت خالية ، فهي الآن تحمل ذهباً في كل أذن . ( وملأ من شحم عضدي ) : بدأت المرأة بالذهب لأنه أهلك النساء ، الأحمران : الذهب والحرير ، فالنساء عندهن شغف شديد بالذهب ، ( وملأ من شحم عضدي ) ، تريد أن تقول : إنه كريم .. يعني أنه أخذها نحيلة والآن امتلأت . ( وبجحني فبجحت إلي نفسي ) ، يقول لها: يا سيدة الجميع ! يا جميلة ! يا جوهرة ! حتى صدقت ذلك، من كثرة ما بجحها إلى نفسها ، ( فبجحت إلى نفسي ) : أي : فصدقته ، مع أنها قالت : (وجدني في أهل غنيمة بشق) ، يعني : شق جبل ، أي أنها كانت تعيش في حارة بشق ، وفي بعض الروايات الأخرى ( بشق ) : يعني كانت تعيش بشق الأنفس ، فقيرة فقراً مدقعاً تقول : ( وجدني في أهل غنيمة ) ، غنيمة : تصغير غنم ، أي أن حالتهم كانت كلها كرب ، حتى الغنم صار غنيمة ، دلالة على حقارة المال . قالت : ( وجدني في أهل غنيمة بشق ) ، فنقلها نقلة عظيمة ، ( فجعلني في أهل صهيل وأطيط ودائس ومنق ) ، هذه نقلة كبيرة من أهل غنيمة بشق، نقلها إلى ( أهل صهيل ) : أصحاب خيل ، ( وأطيط ) : أصحاب إبل ؛ لأن الخف الخاص بالجمل لين، فعندما يكون محملاً حملاً ثقيلاً تسمع كلمة : أط أط أط، خلال مشيه ، فهذا يسمى أطيطاً ، والإبل كانت من أشرف الأنعام عند العرب، ( ودائس ) أي : ما يداس ، وهذا كناية عن أنهم أناس أهل زرع فلاحون، فإن الزارع بعد حصد الزرع يدوس عليه بأي شيء حتى يخرج منه الحب ، فهو كناية عن أنهم أهل زرع . ( ومنق ) : المنق : هو المنخل ، فالعرب ما كانوا يعرفون المنخل إنما كان يعرفه أهل الترف ، تقول عائشة - رضي الله عنها - : ( ما رأى النبي صلى الله عليه وسلم منخلاً بعينيه ) ، فقال عروة : ( فكيف كنتم تأكلون يا خالة ؟ فقالت : كنا نذريه في الهواء ) ، فالتبن يطير في الهواء، والذي يبقى مع الشعير يطحنونه كله ويأكلونه، والنبي عليه الصلاة والسلام كما قالت عائشة : ( مات ولم يشبع من خبز الشعير ) ، ليس من خبز القمح ، فإن القمح هذا لم يأكلوه أبداً! تقول : وما أكل خبزاً مرققاً ) . فكلمة ( منق ) فيها دلالة على الترف ، فعندهم من كل المال ، فهم أغنياء ، عندهم خيل وإبل وزرع ، وعندما يأكلون عندهم منخل ؛ لأنهم كانوا لا يفصلون التبن عن الغلة ، فيطحنونها دقيقاً يسر الناظرين . ( فعنده أقول فلا أقبح ) تقول : مهما قلت فلا أحد يجرؤ أن يقول لي : قبحك الله .. فقد كان عزها من عز الرجل ومكانتها من مكانته، فلا يستطيع أحد أن يرد عليها بكلمة . ( وأرقد فأتصبح ) : تنام حتى وقت الضحى، وهذا يدل على أنه كان معها خدام ؛ إذ لو كانت تعمل بنفسها لما كانت تنام بعد صلاة الفجر ، وهذا كسائر نسائنا ؛ لأنه بعد صلاة الفجر يريد الأولاد أن يذهبوا إلى المدارس ، وتريد أن تصنع الطعام لهم ، والرجل سيخرج إلى العمل ، فتعمل باستمرار ، فإذا كانت تنام حتى تشرق الشمس وترسل سياطها إلى الأرض وهي نائمة ، فمعنى ذلك أن هناك خدماً يكفونها المؤنة . ( وأشرب فأتقمح ) : وفي رواية البخاري : ( فأتقنح ) ، بالنون ، وهناك فرق بين اللفظين ، أما لفظ ( فأتقمح ) فإنه يقال : بعير قامح ، أي إذا ورد الماء وشرب ثم رفع رأسه زهداً في الشرب بعد أن يروى، فهي بعدما تشرب العصير، تترك نصف الكأس؛ لأنها قد ارتوت، وأما ( أتقنح ) أي : تشرب وتأكل تغصباً ، فتأكل حتى تشبع ، فيقال لها : كلي، فتتغصب الزيادة ، وهذا لا يكون إلا إذا كان هناك دلال وحب .
فقولها : فأتقمح أو أتقنح فيه دلالة على أنها تترك الأكل والشرب زهداً فيه لكثرته ، فجمعت بين التبجيح والتعظيم الأدبي وبين الكرم.
وصف أم أبي زرع : ثم قالت : ( أم أبي زرع فما أم أبي زرع! ) وهي عمتها ، فلم تذكر عنها شيئاً من الكلام الذي نسمعه حول العمات وما إلى ذلك ، بل قالت : أم أبي زرع فما أم أبي زرع .. هل تعلمون شيئاً عنها ؟ هذه السيدة الفاضلة ، وهذا على القاعدة : حبيب حبيبي حبيبي ، فالمرأة عندما تحب زوجها ، تدين لأمه بالفضل أنها أنجبته ، وهذه منة في عنق الزوجة للأم أنها أنجبت مثل هذا الإنسان . ( عكومها رداح ) الرداح : هو الواسع ، يردح : أي : يطيل في الكلام، ويتوسع في المقالة ، والعكوم : هي الأكياس التي تخزن فيها الأطعمة ، فمثلاً : عندما تخزن الأرز لا تخزنه في كيس صغير ، بل تخزنه في كيس قطن ، فقولها : ( عكومها رداح ) فيه دلالة على أن البيت كله خير ، وبيتها فسيح ، ومن المعروف أن اتساع البيت أحد النعم .
وصف ابن أبي زرع : ثم قالت : (ابن أبي زرع ، فما ابن أبي زرع! ) يفهم من هذا أن أبا زرع كان متزوجاً ، قبل ذلك .. ( ابن أبي زرع فما ابن أبي زرع، مضجعه كمسل شطبة ، ويشبعه ذراع الجفرة ) ، مسل الشطبة : عندما تأتي بجريدة النخل وتأخذ منها سلخة للسكين ، السلخة هذه هي السرير الخاص به، فهذا الولد نحيف ، لكن عضلاته مفتولة ، والإنسان النحيف مع قوة ممدوح عند العرب ؛ لأن هذا ينفع في الكر والفر ، فهذا مدح تمدح به الولد ، تقول : إنه مفتول العضلات وليس بديناً ، ولا صاحب كرش عظيم ؛ بل سريره كمسل شطبة ، فتستدل على جسمه بسريره الذي ينام عليه ، وإلا فمسل الشطبة لا يكفي واحداً ثقيلاً بديناً . ( ويشبعه جراع الجفرة ) : الجفرة : هي أنثى الماعز الصغيرة ، فلو أكل الرجل الأمامية للشاة فإنه يشبع ، مع أن هذه لا تكفي الواحد ، ومع ذلك فإن هذا الولد يشبع إذا أكل ذراع الجفرة ، وهذه صفات ممدوحة عند الرجال ، بخلاف النساء .
وصف بنت أبي زرع : ولما جاءت تصف بنت أبي زرع قالت : ( بنت أبي زرع فما بنت أبي زرع ! ، طوع أبيها وطوع أمها ) ، أي : مؤدبة ، ( وملء كسائها ) مالئة ملابسها ، وهذا مستمدح في النساء بخلاف الرجال ، ( وغيظ جارتها ) : الجارة هي الضرة ، فقد كان زوجها متزوجاً اثنتين أو أكثر ( فغيظ جارتها ) أي : من جمالها ، وأنها ملء كسائها ، وبذلك تغيظ جارتها .
وصف جارية أم زرع : قالت : ( جارية أبي زرع ، فما جارية أبي زرع ! ) ، والمرأة من حبها للرجل تذكر كل شيء حتى الجارية ، قالت : ( لا تبث حديثنا تبثيثاً ) ، فأي شيء يحصل في البيت لا يعرف به أحد من الخارج ، فهي أمينة لا تنقل الكلام ، ( ولا تنقث ميرتنا تنقيثاًَ ) ، أي : لا تبذر في الطعام ، فلا تجد مثلاً الأرز ملقى على الأرض ، فهي امرأة مدبرة ، تخاف على المال ، ( ولا تملأ بيتنا تعشيشاً ) أي : البيت ليس فيه زبالة ، كعش الطائر، فعش الطائر عبارة عن ريش وحشيش وقش وحطب ، فتقول : بيتنا ليس كعش الطائر ، إنما هو بيت نظيف . وفي بعض الروايات خارج الصحيحين : ( وظلت حتى وصفت كلب أبي زرع ) ، فالكلام هذا كله غزل ، والغزل هنا مستحب ، ولا أقول : غزل عفيف ، إنما هذا غزل مستحب ؛ إذ هي تتغزل في زوجها ، وتعدد فضائل زوجها ، وتشعر بنبرة الحب عالية في كلام المرأة . قالت : ( فخرج أبو زرع والأوطاب تمخض ) ، كان الوقت ربيعاً ، واللبن كثير ، والناس يحلبون لبنهم ، وفي هذا الوقت خرج أبو زرع ( فلقي امرأة معها ولدان لها كالفهدين ) معها اثنان من الأولاد في منتهى الرشاقة ، ( يلعبان من تحت خصرها برمانتين) ، فأعجبه هذا المنظر ، فقال : هذه المرأة لابد أن أضمها إلي ، فضمها إليه ، لكن ما الذي حصل ؟ قالت : ( فطلقني ونكحها )، لأنه لايبقي عنده إلا امرأة واحدة ، رجل يحب التوحيد!! 0
الزوج الثاني بعد أبي زرع : قالت : ( فنكحت بعده رجلاً ثرياً ) ، من ثراة الناس وأشرافهم ، ( ركب سرياً ) ، السري : نوع جيد من أنواع الخيل ، كان الأغنياء يركبونه ؛ لأنه كان مفخرة عندهم ، وحتى تكتمل صورة الأبهة قالت : ( وأخذ خطياً ) ، الخطّي : هو الرمح ، فهو واضع تحت إبطه رمحاً وراكب على الخيل ، متعجرفاً ومهيباً .
وفاء أم زرع لأبي زرع : تقول : ( وأراح علي نعماً ثرياً ) ، أي : أعطاها مالاً وفيراً ، ( وأعطاني من كل رائحة زوجاً ) ، وفي رواية : ( وأعطاني من كل ذابحة - أي: ما يصلح أن يذبح - زوجاً ، وقال : كلي أم زرع وميري أهلك ) ، أي : وأعطي أهلك أيضاً ، فهذا الرجل ليس فيه أي عيب ، إلا أن المرأة تقول : ( فلو أني جمعت كل شيء أعطانيه ما بلغ أصغر آنية أبي زرع ) . فانظر إلى هذا الوفاء !
مع أن المرأة المطلقة لا تكاد تذكر لزوجها السابق حسنة، وهذا الرجل لم يقصر في حقها ، بل قال لها : ( كلي أم زرع وميري أهلك ) ، أنفقي على أهلك ، لكنها تقول : ( فلو أني جمعت كل شيء أعطانيه ما بلغ أصغر آنية أبي زرع.
فهل تجدون في هذا الكون أمرأة بمثل أم زرع لأبي زرع