ابوشلبى مساعد
الجنس : تاريخ الميلاد : 21/12/1995 تاريخ التسجيل : 15/03/2010 عدد المساهمات : 2673 العمر : 28 الموقع : موالى
| موضوع: حدائق الموت الجمعة أبريل 02, 2010 2:00 pm | |
| <BLOCKQUOTE> بسم الله الرحمن الرحيم
حدائق الموت الحمد لله رب العالمين .. الرحمن الرحيم .. مالك يوم الدين .. الحمد لله الكريم الوهاب .. الحمد لله الرحيم التواب .. الحمد لله الهادي إلى الصواب .. مزيل الشدائد وكاشف المصاب .. الحمد لله فارج الهم .. وكاشف الغم .. مجيب دعوة المضطر .. فما سأله سائل فخاب .. يسمع جهر القول وخفي الخطاب .. أخذ بنواصي جميع الدواب .. فسبحانه من إله عظيم .. لا يماثل .. ولا يضاهى .. ولا يرام له جناب .. هو ربنا لا إله إلا هو .. عليه توكلنا .. وإليه المرجع والمتاب .. وسبحان من انفرد بالقهر والاستيلاء .. واستأثر باستحقاق البقاء .. وأذل أصناف الخلق بما كتب عليهم من الفناء .. وأشهد أن لا إله إلا الله .. أما بعد .. حدائق الموت ؟ تلك القبور التي غيبت فيها أجساد تحت التراب .. تنتظر البعث والنشور وأن ينفخ في الصور .. اجتمع أهلها تحت الثرى .. ولا يعلم بحالهم إلا الذي يعلم السر وأخفى .. نعم .. إنه الموت .. أعظم تحدٍّ تحدى الله به الناس أجمعين .. الملوك والأمراء .. والحُجّاب والوزراء .. والشرفاء والوضعاء .. والأغنياء والفقراء .. كلهم عجزوا أن يثبتوا أمام هذا التحدي الإلهي { قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين } أين الجنود ؟ أين الملك ؟ أين الجاه ؟ أين الأكاسرة ؟ أين القياصرة ؟ أين الزعماء ؟ أتى على الكـل أمر لا مرد له حتى قضوا فكأن القـوم ما كانوا وصار ما كان من مُلكٍ ومن مَلِكٍ كما حكى عن خيال الطيف وسنان مرض أبو بكرة رضي الله عنه واشتد مرضه .. فعرض عليه أبناؤه أن يأتوه بطبيب .. فأبى .. فلما نزل به الموت صرخ بأبنائه وقال : أين طبيبكم ؟ .. ليرّدها إن كان صادقاً .. ووالله لو جاءه أطباء الدنيا .. ما ردوا روحه إليه .. { فلولا إذا بلغت الحلقوم * وأنتم حينئذ تنظرون * ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون * فلولا إن كنتم غير مدينين * ترجعونها إن كنتم صادقين * فأما إن كان من المقربين * فروح وريحان وجنة نعيم * وأما إن كان من أصحاب اليمين * فسلام لك من أصحاب اليمين * وأما إن كان من المكذبين الضالين * فنزل من حميم * وتصلية جحيم * إن هذا لهو حق اليقين * فسبح باسم ربك العظيم } .. إنه الموت .. هادم اللذات .. ومفرق الجماعات .. وميتم البنين والبنات .. المــنايا تَجُوسُ كلّ البِـلادِ والمــنايَا تَبيدُ كــلّ العِبَادِ لَتَنالَــنّ مــن قُرونٍ أراها مثلَ ما نِلْنَ مــن ثَمُودٍ وعادِ هل تذكّرْتَ من خلا من بني الأصْـ ـفَرِ أهْلِ القِبابِ والأطْوادِ هلْ تذكّرْتَ من خَلا من بني سَا سانَ أرْبابِ فارِسٍ والسّوَادِ أينَ داوُدُ أينَ ؟ أينَ سُلَيْمَا نُ المــنيعُ الأعراضِ والأجنادِ ؟! أينَ نُمرُودُ وابْنُهُ أينَ قارُو نُ وهامانُ أينَ ذو الأوتادِ وَرَدوا كلهم حِياضَ المــنايَا ثمّ لم يَصْدِروا عَنِ الإيرادِ أتَنَاسَيْتَ أمْ نَسيتَ المــنايَا؟ أنَسيتَ الفِراقَ للأوْلادِ ؟ أنَسيتَ القُبُورَ إذْ أنتَ فيها بَينَ ذُلٍّ وَوَحشَةٍ وانفِرادِ أي يَوْمٍ يَومُ الممات وإذْ أنْـ ـتَ تُنادى فَما تُجيبُ المنادي أيّ يَوْمٍ يوم الفِراقِ وإذْ نَفْــسُكَ تَرْقَى عَنِ الحَشا والفُؤادِ أيّ يَوْمٍ يَوْمُ الفراقِ وإذْ أنْـ ـتَ مـن النّزْعِ في أشَدّ الجِهادِ أيّ يَوْمٍ يَوْمُ الصّراخِ وإذْ يَلْــطِمـن حُرّ الوّجُوهِ والأجيَادِ بـاكِياتٍ عَلَيكَ يَندُبنَ شَجواً خافِقاتِ القُــلُوبِ والأكْبادِ يَتَجـاوَبْنَ بالرّنينِ ويَذْرِفْـ ـنَ دُمُوعاً تَفيضُ فَيضَ المَزادِ أيّ يَوْمٍ يوْمُ الوُقوفِ إلى الله ويَوْمُ الحِسابِ والإشْهادِ أيّ يَوْمٍ يوم المَرور عَلى النّا رِ وأهْوَالِها العِظامِ الشّدادِ أيّ يَوْمٍ يَوْمُ الخَلاصِ من النّا رِ وهَوْلِ العَذابِ والأصْفادِ كم وكم في القُبُورِمن أهلِ ملكٍ كمْ وكمْ في القُبورِمــن قُوّادِ كمْ وكم في القُبورِمن أهلِ دُنْيا كمْ وكم في القُبورِ مــن زُهّادِ وَرَدوا كلهم حِياضَ المــنايَا ثمّ لم يَصْدِروا عَنِ الإيرادِ * * * * * * * * * * ومن تأمل في الموت علم أنه أمر كبّار .. وكأس تدار .. على من أقام أو سار .. يخرج به العباد من الدنيا إلى جنة أو نار .. ولو لم يكن في الموت إلا الإعدام .. وانحلال الأجسام .. ونسيان أجمل الليالي والأيام .. لكان والله لأهل اللذات مكدراً .. ولأصحاب النعيم مغيراً .. * * * * * * * * * * وليست المشكلة في الموت .. فالموت باب وكل الناس داخله .. لكن المشكلة الكبرى .. والداهية العظمى .. ما الذي يكون بعد الموت .. أفي { جنات ونهر * في مقعد صدق عند مليك مقتدر } .. أم في { ضلال وسعر * يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مسَّ سقر} .. * * * * * * * * * * ولأجل ذلك .. فالصالحون يشتاقون إلى لقاء ربهم .. ويعدون الموت جسراً يعبرون عليه إلى الآخرة .. نعم .. يفرحون بالموت ما دام يقربهم إلى ربهم .. ذكر بعض المؤرخين .. أن العدو أغار على ثغر من ثغور الإسلام .. فقام عبد الواحد بن زيد وكان خطيب البصرة وواعظها .. فحث الناس على البذل والجهاد .. ووصف ما في الجنة من نعيم .. ثم وصف الحور العين .. وقال : غــادة ذات دلال ومرح خلقت من كل شيء حسن أترى خاطبها يسمعها يا حبيباً لست أهوى غيره لا تكونن كمن جدّ إلى لا فما يخطب مثلي من سها يجد الواصف فيها ما اقترح طيب فالليت عنها مطرح إذ تدير الكأس طوراً والقدح بالخواتيم يتم المفتتح منتهى حاجته ثم جمح إنما يخطب مثلي من ألحَّ فاشتاق الناس إلى الجنة .. وارتفع بكاء بعضهم ..ورخصت عليهم أنفسهم في سبيل الله .. فوثبت عجوز من بين النساء .. هي أم إبراهيم البصرية .. وقالت : يا أبا عبيد .. أتعرف ابني إبراهيم ! الذي يخطبه رؤساء أهل البصرة .. إلى بناتهم .. وأنا أبخل به عليهن .. قد والله أعجبتني هذه الجارية وقد رضيتها عروساً لابني إبراهيم .. فكرر ما ذكرت من أوصاف .. لعله يشتاق .. فقال أبو عبيد : إذا ما بدت والبدر ليلة تمـــه رأيت لها فضـــلا مبينا على البدر وتبسم عن ثغر نقى كـــأنه من اللؤلؤ المكنون في صــدف البحر فلو وطئت بالنعل منها على الحصى لأزهــرت الأحجار من غير ما قطر ولو شئت عقد الخصر منها عقدته كغصن من الريحان ذي ورق خضـر ولو تفلت في البحر حلو لعابهـا لطاب لأهل البر شرب من البحــر أبى الله إلا أن أموت صبــابة بساحرة العينين طيبـــــة النشر فاضطرب الناس ..وكبروا .. وقامت أم إبراهيم .. وقالت : يا أبا عبيد .. قد والله رضيت بهذه الجارية .. زوجة لإبراهيم .. فهل لك أن تزوجها له في هذه الساعة ؟ وتأخذَ مني مهرها عشرة آلاف دينار .. لعل الله أن يرزقه الشهادة .. فيكون شفيعاً لي ولأبيه في القيامة .. فقال عبد الواحد : لئن فعلت .. فأرجو والله أن تفوزوا فوزاً عظيماً .. فصاحت العجوز : يا إبراهيم .. يا إبراهيم .. فوثب شاب نضر .. من وسط الناس .. وقال : لبيك يا أماه .. فقالت : أي بنيَّ .. أرضيت بهذه الجارية .. زوجة لك .. ومهرها أن تبذل مهجتك في سبيل الله .. ؟ فقال : أي والله يا أماه .. فذهبت العجوز مسرعة إلى بيتها .. ثم جاءت بعشرة آلاف دينار .. فوضعتها في حجر عبد الواحد .. ثم رفعت بصرها إلى السماء .. وقالت : اللهم إني أشهدك .. أني زوجت ولدي من هذه الجارية .. على أن يبذل مهجته في سبيلك .. فتقبله مني يا أرحم الراحمين .. ثم قالت : يا أبا عبيد .. هذا مهر الجارية مني عشرةُ آلاف دينار .. تجهَّز به وجهز الغزاة في سبيل الله .. ثم انصرفت .. واشترت لولدها فرساً جيداً .. وسلاحاً حسناً .. وأخذت تعد الأيام لرحيله .. وهي تودعه غي كل نظرة تنظرها .. وكلمة تسمعها .. والمجاهدون يعدون العدة للخروج .. فلما حان وقت النفير خرج إبراهيم يعدو .. والمجاهدون حوله يتسابقون .. والقراء حولهم يقرؤون :{ إن الله اشترى من .. }.. فلما أرادت فراق ولدها .. دفعت إليه كفناً .. وطيباً يطيب به الموتى .. ثم نظرت إليه .. وكأنما هو قلبها يخرج من صدرها .. ثم قالت : يا بنيَّ .. إذا أردت لقاء العدو .. فالبس بهذا الكفن .. وتطيب بهذا الطيب .. وإياك أن يراك الله مقصراً في سبيله .. ثم ضمته إلى صدرها .. وكتمت من عبرتها .. وأخذت تشمه .. وتودعه .. وتقبله .. ثم قالت : اذهب يا بنيّ .. فلا جمع الله بيني وبينك .. إلا بين يديه يوم القيامة .. فمضى إبراهيم .. والعجوز تتبعه بصرها .. حتى غاب مع الجيش .. فلما بلغوا بلاد العدو وبرز الناس للقتال .. أسرع إبراهيم إلى المقدمة .. فابتدأ القتال .. ورميت النبال .. وتنافس البطال .. أما إبراهيم .. فقد جال بين العدو وصال .. وقاتل قتال الأبطال .. حتى قتل أكثر من ثلاثين من جيش العدو .. فلما رأى العدو ذلك .. أقبل عليه جمع منهم .. هذا يطعنه .. وهذا يضربه .. وهذا يدفعه .. وهو يقاوم .. ويقاتل .. حتى خارت قواه ووقع من فرسه .. فقتلوه .. وانتصر المسلمون .. وهزم الكافرون .. ثم رجع الجيش إلى البصرة .. فلما وصلوا البصرة تلقاهم الناس .. الرجال .. والعجائز .. والأطفال .. وأم إبراهيم بينهم .. تدور عيناها في القادمين .. فلما رأت عبد الواحد .. قالت : يا أبا عبيد ! هل قبل الله هديتي فأهنا ؟ أم رُدت علي فأعزى ؟ فقال لها : بل قبل الله هديتك .. وأرجو أن يكون ابنك الآن مع الشهداء يرزق .. فصاحت قائلة : الحمد لله .. الذي لم يخيب فيه ظني .. وتقبل نسكي مني .. وانصرفت إلى بيتها وحدها .. بعدما فارقت ولدها .. يشتد شوقها .. فتأتي إلى فرشه فتشمها .. وإلى ثيابه فتقلبها .. حتى نامت .. فلما كان الغد : جاءت أم إبراهيم إلى مجلس أبي عبيد وقالت : السلام عليك يا أبا عبيد .. بشراك .. بشراك .. فقال : لا زلت مبشرة بالخير يا أم إبراهيم .. ما خبرك ..؟ فقالت : رأيت البارحة ولدي إبراهيم .. في روضة حسناء .. وعليه قبة خضراء .. وهو على سرير من اللؤلؤ .. وعلى رأسه تاج يتلألأ .. وإكليل يزهر .. وهو يقول : يا أماه .. أبشري .. قد قُبل المهر .. وزُفت العروس .. نعم .. هؤلاء أقوام .. أيقنوا أنه لا مهرب من نزول الموت .. فسعوا إليه قبل أن يسعى إليهم .. أحبّوا لقاء الله فأحبّ الله لقاءهم .. وبذلوا مهجهم رخيصة في سبيل الله تعالى .. فما هو الجزاء ؟ { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون * فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون * يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين * الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم } .. * * * * * * * * * *
نعم والله .. ذلك الفوز الكبير .. إذا أوقفهم ربهم بين يديه .. فرحوا بما ماتوا عليه .. فيبيض وجوههم .. ويرفع درجاتهم .. * * * * * * * * * * بل كان الصالحون يفتنون في دينهم .. ويهددون بالموت .. فلا يلتفتون إليه .. نفوسهم صامدة .. على غاية واحدة .. هي الموت على ما يرضي الله .. فهم كما قال الله لهم : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } .. نعم .. ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون .. - لما ربط الكفار خبيب بن عدي رضي الله عنه على جذع نخلة ليقتلوه .. لم يفزع .. ولم يجزع .. بل أخذ ينظر إليهم ويقول : لقد جمع الأحزاب حولي وألبوا قبائلهم واستجمعوا كل مجمع إلى الله أشكو غربتي ثم كربتي وما أرصد الأعداء لي عند مصرعي ولست أبالي حين أقتل مسلما على أي جنب كان في الله مصرعي وذلك في ذات الإله وان يشأ يبارك على أوصال شلوٍ ممزع - ولما دخل سعد بن أبي وقاص على ملك الفرس .. صرخ في وجهه وقال : جئتك بقوم يحبون الموت .. كما تحبون أنتم الحياة .. - وفي معركة أحد يكثر القتل بالمسلمين .. وتتسابق سهام الكفار إلى رسول صلى الله عليه وسلم .. فكان أبو طلحة رضي الله عنه يرفع صدره ويقول : يا رسول الله لا يصيبك سهم .. نحري دون نحرك .. نعم ما دام أن الموت في رضا الرحمن فمرحباً بالموت .. * * * * * * * * * * بل كانت المعاصي والشهوات .. والآثام والملذات .. تعرض على الصالحين .. فلا يلتفتون إليها .. فيهددون بالموت .. فيختارونه .. فربهم أعظم عندهم من كل شيء .. ذكر ابن كثير وغيره : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث جيشاً لحرب الروم .. وكان من ضمن هذا الجيش .. شاب من الصحابة .. هو عبد الله بن حذافه رضي الله عنه .. وطال القتال بين المسلمين والروم .. وعجب قيصرُ ملكُ الروم من ثبات المسلمين .. وجرأتهم على الموت .. فأمر أن يحضر إليه أسير من المسلمين .. فجاءوا بعبد الله بن حذافة .. يجرونه .. الأغلال في يديه .. والقيود في قدميه .. فأوقفوه أمام الملك .. فتحدث قيصر معه فأعجب بذكائه وفطنته .. فقال له : تنصر .. وأطلقك من الأسر .. فقال عبد الله : لا .. فقال قيصر : تنصر .. وأعطيك نصف ملكي .. فقال : لا .. فقال : تنصر .. وأعطيك نصف ملكي .. وأشركك في الحكم معي .. فقال عبد الله : والله لو أعطيتني ملكك .. وملك آبائك .. وملك العرب والعجم .. على أن أرجع عن ديني طرفة عين ما فعلت .. فغضب قيصر .. وقال : أذن أقتلك .. قال : اقتلني .. فأمر قيصر به فسحب .. وعلق على خشبة .. وجاء قيصر .. وأمر الرماة .. أن يرموا السهام حوله ولا يصيبوه .. وهو في أثناء ذلك يعرض عليه النصرانية .. وهو يأبى .. وينتظر الموت .. فلما رأى قيصر إصراره .. أمر أن يمضوا به إلى الحبس .. ففكوا وثاقه ومضوا به إلى الحبس .. وأمر أن يمنعوا عنه الطعام والشراب .. فمنعوهما .. حتى إذا كاد أن يهلك من الظمأ والجوع .. أحضروا له خمراً .. ولحم خنزير .. فلما رآهما عبد الله .. قال : والله إني لأعلم أن ذلك يحل لي في ديني .. ولكني لا أريد أن يشمت بي الكفار .. فلم يقرب الطعام .. فأخبر قيصر بذلك .. فأمر له بطعام حسن .. ثم أمر أن تدخل عليه امرأة حسناء تتعرض له بالفاحشة .. فأدخلت عليه .. وجعلت تتعرض له وهو معرض عنها .. وهي تتمايل أمامه ولا يلتفت إليها .. فلما رأت المرأة ذلك .. خرجت غضبى وهي تقول : والله لقد أدخلتموني على رجل .. لا أدري أهو بشر أم حجر .. وهو والله لا يدري عني أأنا أنثى أم ذكر .. فلما يئس منه قيصر .. أمر بقدر من نحاس .. فأغلي فيها الزيت .. ثم أوقف عبد الله بن حذافة أمامها .. وأحضروا أحد الأسرى المسلمين موثقاً بالقيود .. حتى ألقوه في هذا الزيت .. وغاب جسده في الزيت .. ومات .. وطفت عظامه تتقلب في فوق الزيت .. وعبد الله ينظر إلى العظام .. فالتفت قيصر إلى عبد الله .. وعرض عليه النصرانية .. فأبى .. فاشتد غضب قيصر .. وأمر بطرحه في القدر .. فلما جروه إلى القدر .. وشعر بحرارة النار .. بكى .. ودمعت عيناه .. ففرح قيصر .. وقال : تتنصر .. وأعطيك .. وأمنحك .. قال : لا .. قال : إذاً .. لماذا بكيت .. فقال عبد الله : أبكي لأنه ليس لي إلا نفس واحدة تلقى في هذا القدر .. فتموت .. ولقد وددت والله أن لي مائة نفس كلها تموت في سبيل الله .. مثل هذه الموتة .. فقال له قيصر : قبل رأسي وأخلي عنك ؟ فقال له عبد الله : وعن جميع أسارى المسلمين عندك .. قال : نعم .. فقبل رأسه .. ثم أطلقه مع الأسرى .. عجباً !! لله دره !! أين نحن اليوم من مثل هذا الثبات .. ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون .. إن من المسلمين اليوم .. من يتنازل عن دينه .. لأجل دراهم معدودات .. أو تتبع الشهوات .. أو الولوغ في الملذات .. ثم يختم له بالسوء والعياذ بالله .. * * * * * * * * * * ومن عدل الله تعالى أن العبد يختم له في الغالب على ما عاش عليه .. فمن كان في حياته يشتغل بالذكر والقيام .. والصدقات والصيام .. ختم له بالصالحات .. ومن تولى وأعرض عن الخير .. خشي عليه أن يموت على ما اعتاد عليه .. ولأجل هذا الفرق العظيم .. كان الصالحون يستعدون للموت قبل نزوله .. بل يغتنم أحدهم آخر الأنفاس واللحظات .. في التزود ورفع الدرجات .. فتجده يجاهد .. ويأمر بالمعروف .. وينهى عن المنكر .. ويشتغل بالطاعات .. إلى آخر نفس يتنفسه .. ثبت الصحيحين وغيرهما .. أن النبي صلى الله عليه وسلم بعدما رجع من حجة الوداع .. جعل مرض الموت يشتد عليه .. يوماً بعد يوم .. وهو في كلمة يتكلمها .. ونظرة ينظرها .. يودع هذه الدار .. ولما اشتدت عليه الحمى .. وأيقن النقلة للدار الأخرى .. أراد أن يودع الناس .. فعصب رأسه .. ثم أمر الفضل بن العباس أن يجمع الناس في المسجد .. فجمعهم .. فاستند صلى الله عليه وسلم إليه .. حتى رقى إلى المنبر .. ثم حمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد .. أيها الناس .. إنه قد دنى مني خلوف من بين أظهركم .. ولن تروني في هذا المقام فيكم .. ألا فمن كنت جلدت له ظهراً .. فهذا ظهري فليستقد منه .. ومن كنت أخذت له مالاً .. فهذا مالي فليأخذ منه .. ومن كنت شتمت له عرضاً .. فهذا عرضي فليستقد منه .. ولا يقولن قائل إني أخشى الشحناء .. ألا وإن الشحناء ليست من شأني .. ولا من خلقي .. وإن أحبكم إلي من أخذ حقاً .. إن كان له علي .. أو حللني فلقيت الله عز وجل .. وليس لأحد عندي مظلمة .. ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ..ومضى إلى بيته .. وبدأت الحمى تأكل جسده .. وهو يتحامل على نفسه ويخرج إلى الناس ويصلي بهم .. حتى صلى بأصحابه المغرب .. من يوم الجمعة .. ثم دخل بيته .. وقد اشتدت عليه الحمى .. فوضعوا له فراشاً فانطرح عليه .. وظل على فراشه تكوي الحمى جسده .. ثم ثقل به مرض الموت .. وهو على فراشه .. واجتمع الناس لصلاة العشاء .. وجعلوا ينتطرون إمامهم صلى الله عليه وسلم ليصلي بهم .. ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد هده المرض .. يحاول النهوض من فراشه .. فلا يقدر .. فأبطأ عليهم .. فجعل بعض الناس ينادي : الصلاة .. الصلاة .. فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى من حوله وقال : أصلى الناس ؟ قالوا : لا .. يا رسول الله .. هم ينتظرونك .. فإذا حرارة جسده صلى الله عليه وسلم تمنعه من النهوض .. فقال : صبوا لي ماء في المخضب .. وهو إناء كبير .. فصبوا له الماء .. وجعلوا يصبون الماء البارد من القرب .. فوق جسده .. فلما برد جسده .. وشعر بشيء من النشاط .. جعل يشير لهم بيده .. فأوقفوا الماء عنه .. فلما اتكأ على يديه ليقوم أغمي عليه .. فلبث ملياً .. ثم أفاق .. فكان أول سؤال سأله .. أن قال : أصلى الناس ؟ قالوا : لا .. يا رسول الله .. هم ينتظرونك .. قال : ضعوا لي ماء في المخضب .. فاغتسل .. وجعلوا يصبون عليه الماء .. حتى إذا شعر بشيء من النشاط .. أراد أم يقوم .. فأغمي عليه .. فلبث ملياً .. ثم أفاق .. فكان أول سؤال سأله .. أن قال : أصلى الناس ؟ قالوا : لا .. يا رسول الله .. هم ينتظرونك .. قال : ضعوا لي ماء في المخضب .. فوضعوا له الماء .. وجعلوا يصبون الماء البارد على جسده .. وأكثروا الماء .. حتى أشار لهم بيده .. ثم اتكأ على يديه ليقوم .. فأغمي عليه .. وأهله ينظرون إليه .. تضطرب أفئدتهم .. وتدمع أعينهم .. والناس عكوف في المسجد ينتظرونه .. فلبث مغمى عليه ملياً .. ثم أفاق .. فقال : أصلى الناس ؟ قالوا : لا .. هم ينتظرونك يا رسول الله .. فتأمل صلى الله عليه وسلم في جسده .. فإذا الحمى قد هدته هداً .. ذاك الجسد المبارك .. الذي نصر الدين .. وجاهد لرب العالمين .. ذلك الجسد .. الذي ذاق من العبادة حلاوتها .. ومن الحياة شدتها .. الجسد الذي تفطرت منه القدمان .. من طول القيام .. وبكت العينان .. من خشية الرحمن .. عذب في سبيل الله .. وجاع .. وقاتل .. لما رأى صلى الله عليه وسلم حاله .. وتمكن المرض مند جسده .. التفت إليهم وقال : مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس .. فيقيم بلال الصلاة .. ويتقدم أبو بكر .. في محراب النبي صلى الله عليه وسلم .. فيصلي بالناس .. ولا يكادون يسمعون قراءته من شدة بكائه وحزنه .. وانتهت صلاة العشاء .. ثم اجتمع الناس لصلاة الفجر .. فيصلي بهم أبو بكر .. ويجتمع الناس بعدها للصلوات .. ويصلي أبو بكر بهم .. أياماً .. ورسول الله صلى الله عليه وسلم على فراشه .. فلما كانت صلاة الظهر أو العصر من يوم الاثنين .. وجد رسول صلى الله عليه وسلم خفة في جسده .. فدعا العباس وعليّاً .. فأسنداه عن يمينه ويساره .. ثم خرج يمشي بينهما .. تخط رجلاه في الأرض .. وكشف الستر الذي بين بيته وبين المسجد .. فإذا الصلاة قد أقيمت .. والناس يصلون .. فرأى أصحابه صفوفاً في الصلاة .. فنظر إليهم .. وجوه مباركة .. وأجسادٌ طاهرة .. ما منهم أحدٌ إلا وقد أصيب في سبيل الله .. منهم من قطعت يده .. ومنهم من فقئت عينه .. ومنهم من ملأت الجراحات جسده .. طالما صلى بهؤلاء الأخيار .. وجاهد معهم .. وجالسهم .. كم ليلة قامها وقاموها .. وأيام صامها وصاموها .. كم صبروا معه على البلاء .. وأخلصوا معه الدعاء .. كم فارقوا لنصرة دينه .. الأهل والإخوان .. وهجروا الأحباب والأوطان .. منهم من قضى نحبه .. ومنهم من ينتظر .. وما بدلوا تبديلاً .. ثم هاهو اليوم يفارقهم .. إلى تلك الدار .. التي طالما شوقهم إلى سكناها .. فلما رآهم في صلاتهم .. تبسم .. حتى كأن وجهه فلقة من قمر .. ثم أرخى الستر .. وعاد إلى فراشه .. وبدأت تصارعه سكرات الموت .. قالت عائشة : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يموت وعنده قدح فيه ماء .. فيدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء .. ثم يقول : لا إله إلا الله .. إن للموت سكرات .. وجعلت فاطمة تبكي وتقول : واكرب أبتاه .. فيلتفت إليها ويقول : ليس على أبيك كرب بعد اليوم .. فجعلت أمسح وجهه .. وأدعو له بالشفاء .. فقال : لا .. بل أسأل الله الرفيق الأعلى .. مع جبريل وميكائيل وإسرافيل .. ثم لما ضاق به النفس .. واشتدت عليه السكرات .. جعل يردد كلمات يودع بها الدنيا .. بل كان يتكلم فيما أهمه .. ويحذر من صور الشرك ويقول : " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " .. " اشتد غضب الله على قوم جعلوا قبور أنبيائهم مساجد " .. وكان من آخر ما قال صلى الله عليه وسلم : " الصلاة الصلاة .. وما ملكت أيمانكم " .. ثم مات صلى الله عليه وسلم .. نعم .. مات .. سيد المرسلين .. وإمام المتقين .. وحبيب رب العالمين .. مات وليس أحد يطالبه بمظلمة .. ولا آذى أحداً بكلمة .. لم يتدنس بأموال حرام .. ولا غيبة ولا آثام .. بل كان إلى الله داعياً .. ولعفو ربه راجياً .. يأمر بالصلاة وعبادة الرحمن .. وينهى عن الشرك والأوثان .. { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم } .. * * * * * * * * * * وكذلك كان الصالحون من بعده صلى الله عليه وسلم .. يستعدون للموت .. بالإكثار من الطاعات .. والمسارعة إلى القربات .. وهم مع كثرة أعمالهم .. وحسن أفعالهم .. إذا فجأهم الموت .. رجوا رحمة ربهم .. وخافوا من عقابه .. ولم يركنوا إلى أعمالهم .. عمر بن الخطاب .. الخليفة الراشد .. الذي نصر الدين .. وجاهد لرب العالمين .. وأطفأ نيران دولة المجوس .. حقد عليه الكافرون .. وكان من أكثرهم حقداً .. أبو لؤلؤة المجوسي .. وكان عبداً نجاراً حداداً في المدينة .. وكان يصنع الرحاء .. جمع رحى وهي آلة لطحن الشعير .. وهي حجران مصفحان يوضع أحدهما فوق الآخر ويطرح الحب بينهما .. وتدار باليد .. فيطحن .. أخذ هذا العبد يتحين الفرص للانتقام من عمر .. فلقيه عمر يوماً في طريق فسأله وقال : حدثت أنك تقول لو أشاء لصنعت رحى تطحن بالريح ؟! فالتفت العبد عابساً إلى عمر .. وقال : بلى .. لأصنعن لك رحى يتحدث بها أهل المشرق والمغرب .. فلتفت عمر إلى من معه .. وقال : توعدني العبد .. ثم مضى العبد وصنع خنجراً له رأسان .. مقبضه في وسطه .. فهو إن طعن به من هذه الجهة قتل .. وإن طعن به من الجهة الأخرى قتل .. وأخذ يطليه بالسم .. حتى إذا طعن به .. يقتل إما بقوة الطعن أو السم .. ثم جاء .. في ظلمة الليل .. فاختبأ لعمر في زاوية من زوايا المسجد .. فلم يزل هناك حتى دخل عمر إلى المسجد ينبه الناس لصلاة الفجر .. ثم أقيمت الصلاة .. وتقدم بهم عمر .. فكبر .. فلما ابتدأ القراءة .. خرج عليه المجوسي .. وفي طرفة عين .. عاجله .. بثلاث طعنات .. وقعت الأولى في صدره والثانية في جنبه .. والثالثة تحت سرته .. فصاح عمر .. ووقع على الأرض .. وهو يردد قوله تعالى : وكان أمر الله قدراً مقدوراً .. وتقدم عبد الرحمن بن عوف وأكمل الصلاة بالناس .. أما العبد فقد طار بسكينه يشق صفوف المصلين .. ويطعن المسلمين .. يميناً وشمالاً .. حتى طعن ثلاثة عشر رجلاً .. مات منهم سبعة .. ثم وقف شاهراً سكينه ما يقترب منه أحد إلا طعنه .. فاقترب منه رجل وألقى عليه رداءً غليظاً .. فاضطرب المجوسي .. وعلم أنهم قدروا عليه .. فطعن نفسه .. وحُمِل عمر مغشياً عليه إلى بيته .. وانطلق الناس معه يبكون .. وظل مغمى عليه .. حتى كادت أن تطلع الشمس .. فلما أفاق .. نظر في وجوه من حوله .. ثم كان أول سؤال سأله .. أن قال : أصلى الناس ؟ قالوا : نعم .. فقال : الحمد لله .. لا إسلام لمن ترك الصلاة .. ثم دعا بماء فتوضأ .. وأراد أن يقوم ليصلي فلم يقدر .. فأخذ بيد ابنه عبد الله فأجلسه خلفه .. وتساند إليه ليجلس .. فجعلت جراحه تنزف دماً .. قال عبد الله بن عمر .. والله إني لأضع أصابعي .. فما تسد الجرح .. فربطنا جرحه بالعمائم .. فصلى الصبح .. ثم قال : يا ابن عباس انظر من قتلني .. فقال : طعنك الغلام المجوسي .. ثم طعن معك رهطاً .. ثم قتل نفسه .. فقال عمر : الحمد لله .. الذي لم يجعل قاتلي يحاجني عند الله بسجدة سجدها له قط .. ثم دخل الطبيب على عمر .. لينظر إلى جرحه .. فسقاه ماءً مخلوطاً بتمر .. فخرج الماء من جروحه .. فظن الطبيب أن الذي خرج دم وصديد .. فأسقاه لبناً .. فخرج اللبن من جرحه الذي تحت سرته .. فعلم الطبيب أن الطعنات قد مزقت جسده .. فقال : يا أمير المؤمنين .. أوص .. فما أظنك إلا ميتاً اليوم أو غداً .. فقال عمر : صدقتني .. ولو قلت غير ذلك لكذبتك .. ثم قال : والله لو أن لي الدنيا كلها .. لافتديت به من هول المطلع .. يعني الوقوف بين يدي الله تعالى .. فقال ابن عباس : وإن قلت ذلك .. فجزاك الله خيراً .. أليس قد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم .. أن يعز الله بك الدين والمسلمين .. إذ يخافون بمكة ؟ فلما أسلمت .. كان إسلامك عزاً .. وظهر بك الإسلام .. وهاجرت .. فكانت هجرتك فتحاً .. ثم لم تغب عن مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم .. من قتال المشركين ؟ ثم قبض وهو عنك راضٍ .. ووازرت الخليفة بعده .. وقُبض وهو عنك راض .. ثم وليت بخير ما ولي الناس .. مصّر الله بك الأمصار .. وجبا بك الأموال .. ونفى بك العدو .. ثم ختم لك بالشهادة .. فهنيئا لك .. فقال عمر : أجلسوني .. فلما جلس .. قال لابن عباس : أعد عليَّ كلامك .. فلما أعاد عليه .. قال : والله إن المغرور من تغرونه .. أتشهد لي بذلك عند الله يوم تلقاه ؟ فقال بن عباس : نعم .. ففرح عمر .. وقال : اللهم لك الحمد … ثم جاء الناس فجعلوا يثنون عليه .. ويودعونه .. وجاء شاب .. فقال : أبشر يا أمير المؤمنين .. صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ثم وليت فعدلت .. ثم شهادة .. فقال عمر : وددت أني خرجت منها كفافاً .. لا عليَّ ولا لي .. فلما أدبر الشاب .. فإذا إزاره يمس الأرض .. فقال عمر : ردوا علي الغلام .. قال : يا ابن أخي .. ارفع ثوبك .. فإنه أنقى لثوبك .. وأتقى لربك .. ثم اشتد الألم على عمر .. وجعل يتغشاه الكرب .. ويغمى عليه .. قال عبد الله بن عمر : غشي على أبي فأخذت رأسه فوضعته في حجري .. فأفاق .. فقال : ضع رأسي في الأرض ثم غشي عليه فأفاق ورأسه في حجري .. فقال : ضع رأسي على الأرض .. فقلت : وهل حجري والأرض إلا سواء يا أبتاه .. فقال : اطرح وجهي على التراب .. لعل الله تعالى أن يرحمني .. فإذا قبضت .. فأسرعوا بي إلى حفرتي .. فإنما هو خير تقدموني إليه .. أو شر تضعونه عن رقابكم .. ثم قال : ويل لعمر .. وويل لأمه .. إن لم يغفر له .. ثم ضاق به النفس .. واشتدت عليه السكرات .. ثم مات صلى الله عليه وسلم .. ودفنوه بجانب صاحبيه .. نعم .. مات عمر بن الخطاب .. لكن مثله في الحقيقة لم يمت .. قدم على أعمال صالحات .. ودرجات رفيعات .. صاحبه في قبره قراءته للقرآن .. وبكاؤه من خشيته الرحمن .. تؤنسه صلاته في وحشته .. ويرفع جهاده من درجته .. تعب في دنياه قليلاً .. لكنه استراح في آخرته طويلاً .. بل قد عده النبي صلى الله عليه وسلم من العشرة المبشرين بالجنة .. بل قد روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوماً : بينا أنا نائم رأيتني في الجنة .. فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر .. فقلت : لمن هذا القصر ؟ قالوا : لعمر .. فذكرت غيرته فوليت مدبراً .. فبكى عمر وقال : أعليك أغار يا رسول الله !! .. * * * * * * * * * * نعم .. هكذا الصالحون .. أيقنوا بنزول الموت فاستعدوا للقائه في كل لحظة .. لما نزل الموت بالعابد الزاهد عبد الله بن إدريس .. اشتد عليه الكرب .. فلما اخذ يشهق .. بكت ابنته .. فقال : يا بنيتي .. لا تبكي .. فقد ختمت القرآن في هذا البيت أربعة آلاف ختمة .. كلها لأجل هذا المصرع .. أمّا عامر بن عبد الله بن الزبير .. فلقد كان على فراش الموت .. يعد أنفاس الحياة .. وأهله حوله يبكون .. فبينما هو يصارع الموت .. سمع المؤذن ينادي لصلاة المغرب .. ونفسه تحشرج في حلقه .. وقد أشتدّ نزعه .. وعظم كربه .. فلما سمع النداء قال لمن حوله : خذوا بيدي ..!! قالوا : إلى أين ؟ .. قال : إلى المسجد .. قالوا : وأنت على هذه الحال !! قال : سبحان الله .. !! أسمع منادي الصلاة ولا أجيبه .. خذوا بيدي .. فحملوه بين رجلين .. فصلى ركعة مع الإمام .. ثمّ مات في سجوده .. نعم .. مات وهو ساجد .. فمن أقام الصلاة .. وصبر على طاعة مولاه .. ختم له برضاه .. اصبر لمر حوادث الدهر فلتحمدن مغبة الصبر وامهد لنفسك قبل ميتتها واذخر ليوم تفاضل الذخر فكأن أهلك قد دعوك فلم تسمع وأنت محشرج الصدر وكأنهم قد هيئوك بما يتهيأ الهلكى من العطر وكأنهم قد قلبوك على ظهر السرير وظلمة القبر يا ليت شعري كيف أنت على ظهر السرير وأنت لا تدري أم ليت شعري كيف أنت إذا غسلت بالكافور والسدر أم ليت شعري كيف أنت إذا وضع الحساب صبيحة الحشر ما حجتك فيما أتيت وما قولك لربك بل وما العذر ألا تكون أخذت عذرك أو أقبلت ما استدبرت من أمر * * * * * * * * * * بل كان الصالحون يتحسرون عند الممات .. على فراق الأعمال الصالحات .. ويودون لو طالت بهم الحياة للتزود في رفع الدرجات .. وتكثير الحسنات .. احتضر عبد الرحمن بن الأسود .. فبكى .. فقيل له : ما يبكيك !! وأنت .. أنت .. يعني في العبادة والخشوع .. والزهد والخضوع .. فقال : أبكي والله .. أسفاً على الصلاة والصوم .. ثمّ لم يزل يتلو حتى مات .. أما يزيد الرقاشي فإنه لما نزل به الموت .. أخذ يبكي ويقول : من يصلي لك يا يزيد إذا متّ ؟ ومن يصوم لك ؟ ومن يستغفر لك من الذنوب .. ثم تشهد ومات .. هذه مشاهد الاحتضار .. لأرباب التعبدّ والأسرار .. فلوا رأيتهم تجافوا عن دفء فرشهم في الأسحار .. يخافون يوماً تنقلب فيه القلوب والأبصار .. فدفنوا تحت الثرى .. وقد أرضوا من يعلم السرّ وأخفى .. هذا هو احتضار المؤمنين .. وما عند الله خير وأبقى .. * * * * * * * * * * الموت لا يفرق بين كبير وصغير .. ولا غني وفقير .. ولا عبد وأمير .. هارون الرشيد ذاك الذي ملك الأرض وملأها جنوداً .. ذاك الذي كان يرفع رأسه .. فيقول للسحابة : أمطري في الهند أو في الصين .. أو حيث شئت .. فوالله ما تمطرين في أرض إلا وهي تحت ملكي .. هارون الرشيد .. خرج يوماً في رحلة صيد فمرّ برجل يقال له بُهلول .. فقال هارون : عظني يا بُهلول .. قال : يا أمير المؤمنين !! أين آباؤك وأجدادك ؟ من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبيك ؟ قال هارون : ماتوا .. قال : فأين قصورهم ..؟ قال : تلك قصورهم .. قال : وأين قبورهم ؟ قال : هذه قبورهم .. فقال بُهلول : تلك قصورهم .. وهذه قبورهم .. فما نفعتهم قصورهم في قبورهم ؟ قال : صدقت .. زدني يا بهلول .. قال : أما قصورك في الدنيا فواسعة * فليت قبرك بعد الموت يتسع فبكى هارون وقال : زدني .. فقال : يا أمير المؤمنين : هب أنك ملكت كنوز كسرى وعُمرت السنين فكان ماذا أليس القـبر غـاية كـل حيٍ وتُسأل بعده عن كل هذا ؟ قال : بلى .. ثم رجع هارون .. وانطرح على فراشه مريضاً .. ولم تمضِ عليه أيام حتى نزل به الموت .. فلما حضرته الوفاة .. وعاين السكرات .. صاح .. بقواده وحجابه : اجمعوا جيوشي .. فجاؤوا بهم .. بسيوفهم .. ودروعهم .. لا يكاد يحصي عددهم إلا الله .. كلهم تحت قيادته وأمره .. فلما رآهم .. بكى .. ثم قال : يا من لا يزول ملكه .. ارحم من قد زال ملكه .. ثم لم يزل يبكي حتى مات .. فلما مات .. أخذ هذا الخليفة .. الذي ملك الدنيا وأودع حفرة ضيقة .. لم يصاحبه فيها وزراؤه .. ولم يساكنه ندماؤه .. لم يدفنوا معه طعاماً .. ولم يفرشوا له فراشا ما أغنى عنه ملكه وماله .. سل الخليفة إذ وافت منيته * أين الجنود أين الخيل والخول أين الكنوز التي كانت مفاتحها * تنوء بالعصبة المقوين لو حملوا أن الجيوش التي أرصدتها عدداً* أين الحديد وأين البيض والأسل لا تنكرن فما دامت على أحد * إلا أناخ عليه الموت والوجل
أما عبد الملك بن مروان .. فإنه لما نزل به الموت ..جعل يتغشاه الكرب .. ويضيق عليه النفس .. فأمر بنوافذ غرفته ففتحت .. فالتفت فرأى غسالاً فقيراً في دكانه .. فبكى عبد الملك ثم قل : يا ليتني كنت غسالاً .. يا ليتني كنت نجاراً .. يا ليتني كنت حمالاً .. يا ليتني لم ألِ من أمر المؤمنين شيئاً .. ثم مات .. عجباً .. باتوا على قلل الأجبال تحرسهم * غلب الرجال فما أغنتهم القلل واستنزلوا بعد عز عن معاقلهم * فأودعوا حفراً يا بئس ما نزلوا ناداهم صارخ من بعد ما قبروا * أين الأسرة والتيجان والحلل أين الوجوه التي كانت منعمة * من دونها تضرب الأستار والكلل أين الرماة ألم تُمنع بأسهمهم * لما أتتك سهام الموت تنتصل أين الأحبة والجيران أجمعهم * أين الأطباء ما اغنوا ولا الحيل ما ساعدك ولا واساك أقربهم * بل سلموك لها يا قبح ما فعلوا ما بال ذكرك منسياً ومطرحاً * وكلهم باقتسام المال قد شغلوا ما بال قبرك وحشاً لا أنيس به * يغشاك من جانبيه الروع والوهل ما بال قبرك لا يأتي به أحد * ولا يمرّ به من بينهم رجل فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم * تلك الوجوه عليها الدود يقتتل قد طال ما أكلوا دهراً وما شربوا* فأصبحوا بعد طول الأكل قد أكلوا وطالما كنزوا الأموال وادخروا * فخلفوها على الأعداء وارتحلوا وطالموا شيدوا دوراً لتحصنهم * ففارقوا الدور والأهلين وانتقلوا ـــــــــــــــــــ نعم .. انتقلوا .. إلى دور ليس فيها خدم يخدمون .. ولا أهل يكرمون .. ولا وزراء ينادمون .. انتقلوا إلى دور .. تجالسهم فيها أعمالهم .. وتخاصمهم صحائفهم .. وما ربك بظلام للعبيد .. * * * * * * * * * * وهناك فريق من الناس ..وسع الله عليهم في أرزاقهم .. وعافاهم في أبدانهم .. فغفلوا عن الاستعداد للموت حتى باغتهم .. فبدد شملهم .. وأخذهم على قبيح فعلهم .. فلما عاينوا الموت طلبوا الرجوع للدنيا .. لا لتجارة ولا مال .. ولا أهل ولا عيال .. ونما لإصلاح الأحوال .. وإرضاء القوي المتعال .. ولكن قد حكم الخالق العظيم أنهم إليها لا يُرجعون .. أولئك العصاة والمذنبون .. اللاهون المضيعون .. غلب عليهم حبهم لدنياهم .. فكان لهم في احتضارهم عذاب وتهويل .. وحيل بينهم وبين الخالق الجليل .. * * * * * * * * * * ذكر القرطبي : أن أحد المحتضرين .. ممّن بدنياه انشغل .. وغرّه طول الأمل .. لما نزل به الموت .. واشتد عليه الكرب .. اجتمع حوله أبناؤه .. يودعونه .. ويقولون : قل لا إله إلا الله .. فأخذ يشهق .. ويصيح .. فأعادوها عليه .. فصاح بهم وقال : الدار الفلانية أصلحوا فيها كذا .. والبستان الفلاني ازرعوا فيه كذا .. والدكان الفلاني اقبضوا منه كذا .. ثمّ لم يزل يردد ذلك حتى مات .. نعم .. مات .. وترك بستانه ودكانه .. يتمتع بهما ورثته .. وتدوم عليه حسرته .. * * * * * * * * * * وذكر ابن القيم : أن أحد تجار العقار .. ذُكّر بلا إله إلاّ الله عند احتضاره فجعل يردّد : هذه القطعة رخيصة .. وهذا مشترى جيّد .. وهذا كذا .. وهذا كذا .. حتى خرجت روحه .. وهو على هذا الحال .. ثم دفن تحت الثرى .. بعدما مشى عليه متكبراً .. قد جمع الأموال .. وكثر العيال .. فما نفعوه في قبره ولا ساكنوه .. * * * * * * * * * * قال ابن القيم : واحتضر رجل ممن كان يجالس شراب الخمور .. فلما حضره نزعُ روحه .. اقبل عليه رجل ممن حوله .. وقال : يا فلان .. يا فلان .. قل لا إله إلا الله .. فتغير وجهه .. وتلبد لونه .. وثقل لسانه .. فردد عليه صاحبه : يا فلان .. قل لا إله إلا الله .. فالتفت إليه وصاح : لا .. اشرب أنت ثمّ اسقني .. اشرب أنت ثمّ اسقني .. وما زال يردّدها .. حتى فاضت روحه إلى باريها .. نعوذ بالله .. { وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل} . * * * * * * * * * * وذكر الصفدي : أن رجلاً كان يشرب الخمر ويجالس أهلها .. وكان إذا سكر ونام .. يمشي ولا يعقل .. فكان ينام في السطح ويشد رجله بحبل كي لا يقع .. فسكر ليلة ونام .. فقام يمشي .. وسقط من السطح .. فأمسكه الحبل .. فبقي معلقاً منكساً .. حتى أصبح ميتاً .. * * * * * * * * * * وذكر في أنموذج الزمان : أن محمد بن المغيث كان رجلاً فاسقاً .. مفتوناً بشرب الخمر .. ولا يكاد يخرج من بيت الخمار .. فلما مرض .. ونزل به الموت .. وخارت قواه .. سأله رجل ممن حوله .. هل بقي في جسمك قوة ؟ هل تستطيع المشي ..؟ فقال : نعم .. لو شئت مشيت من هنا إلى بيت الخمار .. فقال صاحبه : أعوذ بالله أفلا قلت أمشي إلى المسجد ؟ فبكى .. وقال : غلب ذلك عليَّ لكل امرئ من دهره ما تعودا .. وما جرت عادتي بالمشي إلى المسجد .. * * * * * * * * * * وقال ابن أبي رواد : حضرت رجلاً عند الموت .. فجعل من حوله يلقّنونه لا إله إلا الله .. فحيل بينه وبينها .. وثقلت عليه .. فجعلوا يعيدون عليه .. ويكررون .. ويذكرونه بالله .. وهو في كرب شديد .. فلما ضاق عليه النفس .. صاح بهم وقال : هو كافر بلا إله إلاّ الله .. ثم شهق ومات .. قال : فلما دفناه .. سألت أهله عن حاله : فإذا هو مدمن للخمر .. نعوذ بالله من سوء الخاتمة .. بل نعوذ بالله من أم الخبائث .. ورأس الفواحش .. ومن شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة .. ومن شرب الخمر في الدنيا كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال .. قيل : يا رسول الله وما طينة الخبال ؟ قال : عصارة أهل النار .. إلا أن يتوب قبل موته .. * * * * * * * * * * أما أهل المعازف والغناء .. فلهم عند الموت كربة وبلاء .. ذكر ابن القيم : أن رجلا من أهل الغناء والمعازف حضرته الوفاة .. فلما اشتدّ به نزع روحه .. قيل له : قل لا إله إلا الله .. فجعل يردد أبياتاً من الغناء .. فأعادوا عليه التلقين ..: قل لا إله إلا الله .. فجعل يردد الألحان ويقول : تنتنا .. تنتنا .. حتى خرجت روحه من جسده .. وهو إنمّا يلحّن ويغني .. * * * * * * * * * * أما أهل الجريمة الكبرى .. والداهية العظمى .. فهم أنصار الشيطان .. وأعداء الرحمن .. وخصوم المؤمنين .. وإخوان الكافرين .. الذين يحشرون مع فرعون وهامان ..ويتقلبون معهم في النيران .. هم تاركو الصلاة .. وبين الرجل وبين الكفر أو الشرك .. ترك الصلاة .. وحالهم عند الموت وبعده أدهى وأفظع .. ذكر ابن القيم : أن أحد المحتضرين .. كان صاحب معاص وتفريط .. فلم يلبث أن نزل به الموت .. ففزع من حوله إليه .. وانطرحوا بين يديه .. وأخذوا يذكرونه بالله .. ويلقنونه لا إله إلا الله .. وهو يدافع عبراته .. فلما بدأت روحه تنزع .. صاح بأعلى صوته .. وقال : أقول : لا إله إلا الله !! وما تنفعني لا إله إلا الله ؟!! وما أعلم أني صليت لله صلاة !! ثمّ مات .. * * * * * * * * * * هذا هو الموت .. أول طريق الآخرة .. وما بعده أفظع وأكبر .. * * * * * * * * * * أما أحوال أهل القبور .. فهي أدهى وأخطر .. فكم من جسد صحيح .. ووجه صبيح .. ولسان فصيح .. هو اليوم في قبره يصيح .. على أعماله نادم .. وعلى الله قادم .. خرج عمر بن عبد العزيز .. في جنازة بعض أهله فلما أسلمه إلى الديدان .. ودسه في التراب .. التفت إلى الناس فقال : أيها الناس : إن القبر ناداني من خلفي .. أفلا أخبركم بما قال لي ؟ قالوا : بلى .. فقال : إن القبر قد ناداني فقال : يا عمر بن عبد العزيز .. ألا تسألني ما صنعت بالأحبة ؟ قلت : بلى . قال : خرقت الأكفان .. ومزقت الأبدان .. ومصصت الدم .. وأكلت اللحم .. ألا تسألني ما صنعت بالأوصال ؟ قلت : بلى . قال : نزعت الكفين من الذراعين .. والذراعين من العضدين .. والعضدين من الكتفين .. والوركين من الفخدين .. والفخدين من الركبتين .. والركبتين من الساقين .. والساقين من القدمين . ثم بكى عمر فقال : ألا إن الدنيا بقاؤها قليل .. وعزيزها ذليل .. وشبابها يهرم .. وحيها يموت .. فالمغرور من اغترَّ بها .. أين سكانها الذين بنوا مدائنها .. ما صنع الترابُ بأبدانهم ؟ والديدانُ بعظامهم وأوصالهم ؟ كانوا في الدنيا على أسرةٍ ممهدة .. وفرشٍ منضدة .. بين خدم يخدمون .. وأهلٍ يكرمون .. فإذا مررت فنادهم .. وانظر إلى تقارب قبورهم من منازلهم .. وسل غنيَّهم ما بقي من غناه ؟ وسل فقيرَهم ما بقي من فقره ؟ سلهم .. عن الألسن .. التي كانوا بها يتكلمون .. وعن الأعين التي كانوا إلى اللذات بها ينظرون .. وسلهم عن الجلود الرقيقة .. والوجوه الحسنة .. والأجساد الناعمة .. ما صنع بها الديدان ؟ محت الألوان .. وأكلت اللحمان .. وعفرت الوجوه .. ومحت المحاسن .. وكسرت القفا .. وأبانت الأعضاء .. ومزقت الأشلاء .. أين خدمهم وعبيدهم ..أين جمعهم ومكنوزهم ؟ والله ما زودوهم فَرْشا .. ولا وضعوا هناك متكئاً .. أليسوا في منازل الخلوات .. وتحت أطباق الثرى في الفلوات ؟ أليس الليل والنهار عليهم سواء ؟ قد حيل بينهم وبين العمل .. وفارقوا الأحبة والأهل .. قد تزوجت نساؤهم .. وترددت في الطرق أبناؤهم .. وتوزعت القرابات ديارهم وتراثهم .. ومنهم والله الموسع له في قبره .. الغض الناضر فيه .. المتنعم بلذته .. ثم بكى عمر وقال : يا ساكن القبر غداً .. ما الذي غرك من الدنيا ! .. أين رقاق ثيابك .. أين طيبك .. أين بخورك .. كيف أنت على خشونة الثرى .. ليت شعري بأي خديك يبدأ الدود البِلى .. ليت شعري ما الذي يلقاني به ملك الموت عند خروجي من الدنيا .. وما يأتيني به من رسالة ربي ..ثم بكى بكاءً .. ثم انصرف فما بقي بعد ذلك إلا جمعة .. ومات .. رحمه الله .. * * * * * * * * * * أهلُ القبور إما معذبون أو منعّمون .. بل لعله في القبر الواحد دُفن عدة أشخاص .. هذا إلى الجنة وهذا إلى النار .. بل يا أُخَيَّ ..إن الأمر أعجب من ذلك .. لعل تحت قدميك الآن أقوام يُعذبون أو ينعمون .. بل لعل تحتك في غرفة نومك أقواما محبوسين في حفر من جهنم .. يعرضون على النار بكرة وعشياً .. من يدري فالناس كثير .. والأرض قد تضيق عنهم .. صاح هذي قبورنا تملأ الرحب * فأين القبور مـن عهد عاد خفف الوَطْء ما أظن أديم الأرض * إلا مـــن هذه الأجساد رُبَّ قبر قد صــار قبراً مراراً * ضاحكٍ من تزاحم الأضداد ودفين على رفـــات دفين * مــن قديم الزمان والآماد تعب كلها الحياة فـلا أعجب * إلا مــن راغب في ازدياد فأي عيش صفا وما كدّره الموت ؟ أي قدم سعت وما عثّرها الموت ؟ أما أخذ الآباء والأجداد ؟ أما سلب الحبيب وقطع الوداد ؟ أما أرمل النسوان .. وأيتم الأولاد ؟ عزاءٌ فما يصنع جازعُ ودمع الأسى أبد ضائعُ بكى الناس من قبل أحبابهم فهل منهم أحدٌ راجعُ فدلى ابن عشرين في قبره وتسعون صاحبها رافعُ يُسلِّم مهجته راغماً كما مدّ راحته البائعُ ولو أن من حدث سالما لما خسف القمر الطالع وكيف يوقّى الفتى ما يخاف إذا كان حاصده الزارع * * * * * * * * * * فالقبر روضة من الجنان أو حفرة من حفر النيران وإنه للفيصل الذي به ينكشف الحال فلا يشتبه فإن يكُ خيراً فالذي من بعده أفضل عند ربنا لعبده وإن يكن شراً فما بعد أشدّ ويل لعبد عن سبيل الله صد * * * * * * * * * * روى الإمام أحمد في مسنده : عن البراء بن عازب قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة .. فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على القبر .. وجلسنا حوله .. كأن على رؤوسنا الطير .. وهو يلحد له .. فقال : تعوذوا بالله من عذاب القبر .. قلنا : نعوذ بالله من عذاب القبر .. قال : تعوذوا بالله من عذاب القبر .. قلنا : نعوذ بالله من عذاب القبر .. قال : تعوذوا بالله من عذاب القبر .. قلنا : نعوذ بالله من عذاب القبر .. ثم قال : إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا .. وإقبال من الآخرة .. نزل إليه ملائكة من السماء .. بيض الوجوه .. كأن وجوههم الشمس .. معهم كفن من أكفان الجنة .. وحنوط من حنوط الجنة .. حتى يجلسوا منه مد البصر .. ثم يجئ ملك الموت عليه السلام .. حتى يجلس عند رأسه .. فيقول : أيتها النفس الطيبة .. أخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان .. فتخرج تسيل .. كما تسيل القطرة من فيِّ السقاء .. فيأخذها .. فإذا أخذها .. لم يدعوها في يده طرفة عين .. حتى يأخذوها فيجعلوها .. في ذلك الكفن .. وفي ذلك الحنوط .. ويخرج منها كأطيب نفحة مسك .. وجدت على وجه الأرض .. فيصعدون بها .. فلا يمرون على ملأ من الملائكة .. إلا قالوا : ما هذا الروح الطيب ؟ فيقولون : فلان بن فلان .. بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا .. حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا .. فيستفتحون له .. فيفتح لهم .. فيشيعه من كل سماء مقربوها .. إلى السماء التي تليها .. حتى يُنتهى به إلى السماء السابعة .. فيقول الله عز وجل : اكتبوا كتاب عبدي في عليين .. وأعيدوه إلى الأرض .. فإني منها خلقتهم .. وفيها أعيدهم .. ومنها أخرجهم تارة أخرى .. فتعاد روحه في جسده .. فيأتيه ملكان .. فيجلسانه .. فيقولان له : من ربك ؟ فيقول : ربي الله .. فيقولان له : ما دينك ؟ فيقول : ديني الإسلام .. فيقولان له : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول : هو رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فيقولان له : وما علمك ؟ فيقول : قرأت كتاب الله .. فآمنت به .. وصدقت .. فينادى مناد في السماء : أن صدق عبدي .. فافرشوه من الجنة .. وألبسوه من الجنة .. وافتحوا له باباً إلى الجنة .. فيأتيه من روحها .. وطيبها .. ويفسح له في قبره .. مَدَّ بصره .. ويأتيه رجل حسنُ الوجه .. حسنُ الثياب .. طيب الريح .. فيقول : أبشر بالذي يسرك .. هذا يومك الذي كنت توعد .. فيقول له : من أنت ؟ فوجهك الوجه يجئ بالخير .. فيقول : أنا عملك الصالح .. كنت والله سريعاً في طاعة الله .. بطيئاً عن معصية الله .. فجزاك الله خيراً .. نعم .. أيها الإخوة والأخوات .. يقول له : أنا عملك الصالح .. أنا صلاتك وصومك .. أنا برك وصدقتك .. أنا بكاؤك وخشيتك .. أنا حجك وعمرتك .. أنا قراءتك للقرآن .. وحبك للرحمن .. أنا قيامك في الأسحار .. وصومك في النهار .. وخوفك من العزيز الجبار .. أنا برك لوالديك ..أنا طلبك للعلم .. أنا دعوتك إلى الله .. أنا جهادك في سبيل الله .. فإذا رأى العبد المؤمن .. هذا الوجه الصبوح يبشره .. والتفت حوله فرأى قبره قد أصبح واس | |
|