لنا جبلٌ يحتلّه من نجيره ... منيعٌ يردّ الطرف وهو كليل
رسا أصله تحت الثرى وسما به ... إلى النّجم فرعٌ لا ينال طويل
وقال الأعشى:
كناطح صخرة يوماً ليفلقها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
فهذا كلام العرب. ومن هذا الباب قوله تعالى: " يَا بَني آدَمَ قَدْ أَنزلْنا عليكم لِباساً يوارِي سَوْآتكم " ومعلوم أن الله لم ينزل من السماء ملابس تلبس، وإنما تأويله والله أعلم أنه أنزل المطر فنبت عنه النبات، ثم رعته البهائم، فصار صوفاً وشعراً ووبراً على أبدانها، ونبت عنه القطن والكتان، فاتخذت من ذلك أصناف الملابس، فسمى المطر لباساً، إذ كان سبباً لذلك على مذاهب العرب في تسمية الشيء باسم الشيء إذا كان منه بسبب، وهذا يسميه أصحاب المعاني: التدريج.
ونحوه قولهم للمطر سماء لأنه ينزل من السماء، وللنبت ندىً لأنه عن الندى يكون، وللشحم ندىً، لأنه عن النبت يكون قال ابن أحمر:
كثور العذاب الفرد يضربه الندى ... تعلّى الندى في متنه وتحدّرا
وقال معاوية بن مالك معود الحكماء:
إذا سقط السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا
نحوه قول الراجز:
الحمد للّه العزيز المنّان ... صار الثريد في رؤوس العيدان
يريد السنبل.
ومن هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم: ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا ثلث الليل الآخر، فيقول: هل من سائل فأعطيه ؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟ هل من تائب فأتوب عليه ؟.
جعلته المجسمة نزولاً على الحقيقة تعالى الله عما يقول الجاهلون علواً كبيراً وقد أجمع العارفون بالله تعالى على أنه لا ينتقل، لأن الانتقال من صفات المحدثات. ولهذا الحد تأويلان صحيحان لا يقتضيان شيئاً من التشبيه: أحدهما: أشار إليه مالك بن أنس رضي الله عنه، وقد سئل عن هذا الحديث، فقال: ينزل أمره في كل سحر، فأما هو عز وجل فإنه دائم لا يزول.
وسئل عنه الأوزاعي فقال: يفعل الله ما يشاء. وهذا تلويح يحتاج إلى تصريح، وخفى إشارة يحتاج إلى بين عبارة.
وحقيقة الذي ذهبنا إليه أن العرب تنسب الفعل إلى من أمر به كما تنسبه إلى من فعله وباشره بنفسه، فيقولون: كتب الأمير لفلان كتاباً، وقطع الأمير يد اللص، وضرب السلطان فلاناً ألف سوط، وهو لم يباشر شيئاً من ذلك بنفسه. إنما أمر به، ولأجل هذا احتيج إلى التأكيد الموضوع في الكلام، فقيل: جاء زيد نفسه، ورأيت زيداً نفسه.
فمعناه على هذا أن الله تعالى يأمر ملكاً بالنزول إلى السماء الدنيا، فينادي بأمره، وقد تقول العرب جاء فلان، إذا جاء كتابه ووصيته، ويقولون للرجل: أنت ضربت زيداً، وهو لم يضربه إذا كان قد رضى بذلك وشايع عليه قال الله تعالى: " فلِمَ تقتلون أَنبياءَ اللّه ؟ " . والمخاطبون بذلك لم يقتلوا نبياً، ولكنهم لما رضوا بذلك، وتولوا قتلة الأنبياء، وشايعوهم على فعلهم نسب الفعل إليهم، وإن كانوا لم يباشروه.
وعلى نحو هذا يتأول قوله تعالى: " فأَتى اللّهُ بُنْيانَهُم مِنَ القَواعِد " .
فهذا تأويل كما قال صحيح جاء على فصيح كلام العرب في محاوراتها، والمتعارف من أساليبها، وهو شرح ما أراده مالك والأوزاعي رحمهما الله.
ومما يقوى هذا التأويل، ويشهد بصحته أن بعض أهل الحديث رواه. ينزل الله، بضم الياء وهذا واضح.
والتأويل الثاني أن العرب تستعمل النزول على وجهين أحدهما حقيقة، والآخر مجاز واستعارة.
فأما الحقيقة فانحدار الشيء من علو إلى سفل كقوله تعالى: " ويُنَزِّل مِنَ السَّماءِ من جبال فيها من بَرَد " .
وكقول امرئ القيس:
هو المنزل الألاّف من جوّ ناعطٍ ... بنى أسد حزناً من الأرض أوعرا
وأما الاستعارة والمجاز فعلى أربعة أوجه: أحدها: الإقبال على الشيء بعد الإعراض، والمقاربة بعد المباعدة يقال: نزل البائع في سلعته إذا قارب المشتري بعد مباعدته، وأمكنه منها بعد منعه، ويقال: نزل فلان عن أهله: أي تركها وأقبل على غيرها، ومنه قول الشاعر:
أنزلني الدهر على حكمه ... من شاهق عال إلى خفض