ابوشلبى مساعد
الجنس : تاريخ الميلاد : 21/12/1995 تاريخ التسجيل : 15/03/2010 عدد المساهمات : 2673 العمر : 28 الموقع : موالى
| موضوع: وليمــة الثلاثاء يوليو 20, 2010 1:16 am | |
| انتهيت من تناول الغذاء مع زملائي في الجماعة .. كانت عادتنا التي تعودنا عليها ، أن نجتمع على الأواني التي يحضرها مندوب تعيين الجماعة وبها الطعام .. نستتر تحت الجزء المُغطىَ من الخندق .. حتى لا تفاجئنا نيران العدو .. فتحصدنا ونحن في هذا الوضع .. مندوب التعيين واحد منا .. كل يوم يتم اختيار واحد من الجماعة يختاره العريف مختار قائد الجماعة .. يقوم هذا المندوب بغسل الآنية ويتوجه بها إلى نقطة توزيع التعيين بقيادة السرية .. وكثيرا ما كان يتأخر علينا ، عندما تفاجئه دانات الهاون المعادية وهي تزغرد في الجو ، أو بعد انفجارها .. فيختبئ في أقرب ملجأ ميداني له .. أو جزء مُغطى من الخندق الممتد على مواجهة السرية .. لم يكن يتحرك إلا بعد أن يزول الخطر تماما .. ولكن تحركه كان دائما من داخل الخندق .. فالمنطقة كانت مكشوفة لملاحظة ونيران العدو من شرق قناة السويس .. ومن الغريب أن أحدا منا لم يكن يشعر بالجوع ، أو متشوقا للطعام رغم التأخير الذي قد يصل لعدة ساعات .. فأصوات الانفجارات التي كانت تحيطنا من كل جانب تلهينا عن مجرد التفكير في الجوع .. الإحساس باحتمال دنو الأجل كان يقتل الشهية فينا .. حتى بعد أن يصل المندوب بالغذاء .. كنا نأكل بلا حماس .. ولا نشعر بطعم الأكل .. مجرد تأدية واجب .. أما إذا أصيب أو استشهد أحد الزملاء .. فلم نكن نقرب الطعام .. ويظل على حاله إلى أن يتم التخلص منه في المساء أو في الصباح .. لتفريغ أواني الطعام لصرف الوجبة التالية .. كانت عادة .. وكان هذا هو روتيننا اليومي في مسألة الوجبات ، كان يحدث تلقائيا .. مثل عقارب الساعة .. كان إعداد الطعام في مطبخ الوحدة الميداني يتم أيضا بأسلوب روتيني .. ولم يكن فيه من المشهيات والبهارات ما يحفز شهيتنا .. وغالبا ما كان يصل إلينا باردا .. وربما به بعض الأتربة والرمال بفعل الرياح .. فمندوب التعيين كان يقطع المسافة من نقطة توزيع السرية على مسافة قد تصل إلى نصف كيلو متر ، وكل حرصه أن يكون محجوبا عن نظر ورؤية العدو .. فيسير في الخندق منحنيا حتى تكون رأسه أقل من ارتفاع سطح الأرض .. ورغما عنه تصطدم أكتافه بأجناب الخندق .. فتتناثر بعض ذرات الرمل على الآنيه فتصل إلى الطعام رغم أنها في معظم الأحيان تكون مغطاه .. كنا نشعر بهذه الذرات وهي تتهشم في فمنا وتتهشم معها أسناننا .. ولك أن تتخيل الحالة النفسية وأنت تجرش الرمال تحت أسنانك أثناء تناول طعامك .. كان يهون علينا ما نعانيه من العذاب بسبب تآمر الرمال ونيران العدو .. هو عودة أحدنا من أجازته الميدانية مزودا بما لذ وطاب من الطعام الذي أعدته له أسرته ، كانت نوعية الطعام تختلف حسب المكان الذي تعيش فيه الأسرة .. فالريف غير المدينة ، ولكن كلا ً له مذاقه وحلاوته .. فمن يأتي من القرية يعود محملا بالحمام المحشي وأنواع الطيور الأخرى بالإضافة إلى الفطير المشلتت والقشدة والبيض وما إلى ذلك .. ومن يأتي من المدينة يعود محملا بما لذ وطاب من الأصناف المعدة في الفرن .. وأنواع المكرونة بالبشاميل أو باللحمة المفرومة .. بالإضافة إلى أنواع اللحوم كالبوفتيك ، والكباب حلة .. وأصناف أخرى ما أنزل الله بها من سلطان .. كان دائما التنافس والتسابق على أشده بين أهل الريف وأهل المدينة .. وكنا نحن الرابح الوحيد في هذا الصراع الشهي .. كانت الجماعة تحتفل بهذه المأدبات كل أسبوع .. مع وصول دفعات الأجازات .. ولم يكن يعكر صفونا شيء ونحن نلتهم الطعام ليلا .. حيث نكون في استقباله على أحر من الجمر .. ولم نكن نسعد باللمه إلا في وجود العريف مختار .. عريف الجماعة .. كنا جميعا نحبه ونقدره .. لا لطيبة قلبه فقط .. ولكن أيضا لشهامته ومروءته ، وحسن معاملته .. وحبه للجميع .. كنا نخشاه لا خوفا منه .. ولكن تفاديا لإغضابه أو زعله .. وقد كنا نأنس بمجلسه .. ونعشق حكاياته بالعفوية والبساطة التي كانت من سماته المحببة .. لم يكن ينتظر وليمة الأجازات كما كنا نفعل نحن .. فقد كان أبيا .. عزيز النفس .. وكنا نأبى أن نشرع في الإجهاز على الوليمة إلا بعد أن يذهب أحدنا إليه ويدعوه .. كان يرفض في البداية ، ولكن يرضخ للإلحاح والإصرار .. وحين يزداد رفضه ويشتد إصراره نتكالب عليه كلنا ولا نتركه إلا وهو برفقتنا .. كنا نلتف حول الطعام جلوسا على الأرض ولا نبدأ إلا بعد أن يفتتح العريف مختار الوليمة بيده .. فيبدأ السباق .. وتتناحر الأيدي والأذرع .. وتتحول الدائرة المستديرة أمامنا إلى موقعة حامية الوطيس .. وما هي إلا لحظات ونكون قد التهمناها عن بكرة أبيها في سباق رهيب مع الزمن .. كأن كل منا كان يختزن في أمعائه ما يكفيه بقية أيام الأسبوع .. إلى موعد المأدبة التالية من زميل آخر .. كنت في الأجازة في قريتنا .. وكان كل حرصي ، ومبلغ اهتمامي طوال فترة الأجازة أن أعد الأطعمة التي سأحملها معي للجماعة .. كانت حالة الطوارئ في الدار على أشدها .. حيث أعدت أمي وأخواتي البنات ثلاث بطات وثلاث فرخات حشونها بالفريك والبصل المبشور .. وكنت أصر على إعداد طواجن البطاطس والبامية باللحم المفروم في الفرن .. بالإضافة إلى خمس أزواج من الحمام المحشي .. ولم أنس الفطير المشلتت بالسمن البلدي الذي كانت رائحته تملأ المكان وتفصح عن هويته أينما تواجد .. كما حرصت على إعداد عدة أبرمة بالأرز المعمر باللبن الحليب .. عدت إلى الجماعة في الموقع وأنا سعيد بما جلبته معي .. فخور بما صنعته أسرتي .. أفكر في علامات الفرحة وهي تطل من عيون زملائي .. أتخيل لعابهم وهو يكاد يسيل من أفواههم .. ويبلل شفاههم .. فرشنا بطانية على الأرض وأعددنا الوليمة .. وبعثنا بأحدنا إلى العريف مختار لاستدعائه حيث كان يتعمد أن يكون بعيدا لحظة وصول الأجازات .. وتحولقنا نحن حول الوليمة .. نستمتع بالمنظر الجميل للبط والفراخ والحمام وهي مستلقية على ظهورها بلون الإحمرار الذي ينتشر على أبدانها في لمعة محببة .. والأبرمة المختلفة تنتشر فوق رقعة البطانية التي لم يعد بها مكانا آخر للفطير المشلتت فنحيناه جانبا ولكن رائحته تطارد أنوفنا بإصرار .. كان زملائي من أفراد الجماعة كما توقعت .. يجلسون في صمت مطبق يتطلعون إلى الوليمة .. تتلاعب بأنوفهم رائحة الطعام ، وتغازل عيونهم الطيور وقد اكتست بحمرة التحمير .. وتزغرد أمعاءهم للرائحة التي سادت المكان .. أحسست بأن صبرهم قد نفذ وقد انحنوا بجزوعهم على الأطعمة حتى كادت أن تلامسها وجوههم .. ورغم ذلك .. كانت مقاومتهم شديدة .. فرغبتهم في أن يبدأ العريف مختار بافتتاح الوليمة أشد من لهاثهم ، وشهيتهم التي أصبحت لا تقاوم .. تأخر وصول العريف مختار .. سمعنا أصوات انفجارات في الخارج .. أصوات الانفجارات هي أمر عادي وطبيعي في حياتنا اليومية .. فلم يكن اليوم يخلو منها سواءا من جانب العدو أو رد مدفعيتنا عليه أوالعكس .. لم تكن مثل تلك الأصوات تثير قلقنا .. فقد تعودنا عليها .. كان رد فعلنا الوحيد هو مزيد من الانتباه للتأكد من مرورها بسلام لنستأنف نشاطنا العادي .. تهيأنا لاستقبال العريف مختار بعد أن ينتهي القصف .. وأصوات الدانات المتفجرة .. ولكن دخل علينا زميلنا مندفعا كاد أن يهدم علينا الملجأ من شدة اندفاعه .. وقد اتسعت عيناه يملأهما الرعب والهلع .. .. شفتاه تتحركان وقد فغر فاه محاولا النطق .. ولكن لا يستطيع .. فقد خانه النطق وهرب منه الصوت .. بعد جهد نطق كلمات متقطعه كالحروف .. فهمنا منها أن العريف مختار قد أصابه مكروه .. إندفعنا إلى حيث أشار .. لم يكن المكان بعيدا .. كان على بعد خطوات منا .. وجدنا العريف مختار وقد رقد في بركة من دمائه شهيدا والبسمة تطل من شفتيه .. لم نستطع إسعافه فقد سبق السيف العزل وأسلم الروح إلى بارئها .. وصلت جماعة دفن الشهداء من قيادة الكتيبة وحملته على النقالة واختفت .. عدنا أدراجنا بين الدموع والحزن .. يعتصرنا الألم .. ويملأنا الهم والغم .. لا نصدق أن العريف مختار قد رحل عنا بهذه السرعة .. لقد كنا في انتظار وصوله إلينا بين لحظة وأخرى .. ولكن شاء القدر ألا يأتي أبدا .. عدنا إلى الملجأ .. إلتففنا حول المأدبة المفروشة على الأرض .. كانت رائحة الموت تخيم على رؤوسنا .. ولون الدم في عيوننا وفي كل الأشياء من حولنا .. وطعم المرارة يمزق في صدورنا ويعتصر جوفنا .. قمنا جميعا .. غادرنا الملجأ غير عابئين بالرمال التي تنهال من أجناب الملجأ فوق الطعام .. فقد كنا نتحرك بعصبية وعنف .. وبعد أن استشهد العريف مختار .. ماتت معه الرغبة في الطعام .. لقد كانت أسوأ وليمة .. وآخر وليمة للجماعة .
| |
|
اشرف مصطفى2010 احلى مبدع
الجنس : تاريخ الميلاد : 13/07/1996 تاريخ التسجيل : 29/07/2010 عدد المساهمات : 641 العمر : 28 الموقع : مدرسه الدروتين الاعداديه
| موضوع: رد: وليمــة الأحد أغسطس 01, 2010 7:10 pm | |
| | |
|