لا أدري حقا، لماذا شعرت بشئ من الريبة والشك وأنا أستمع إلي نتائج الثانوية العامة هذا العام الحالي؟ نحن لا نقطع بما نقول ونؤكده، ولا نشكك في أحد، ولانحاسب النوايا، لأننا ببساطة شديدة لا نملك أدلة مادية علي بعض ما نشعر إزاءه بريبة وشك، ولكننا شعرنا ببعض الهواجس، وارتسمت أمامنا بعض علامات الاستفهام التي تبحث عن إجابة، وجدنا أن من حقنا أن نعبر عنها، بحثا عن اليقين الذي عنده يطمئن القلب ويقتنع العقل. |
هذا العام 2010 هو عام يمر مثلما مرت أعوام كثيرة سابقة، تجري فيها الامتحانات، وتظهر عقبها النتائج، ومن المعتاد أن من لم يحصلوا علي ما كانوا يأملون من نتائج يشككون فيها، والراسبون عادة مايلقون بالذنب علي أسباب خارجية، وهو ما يكشف عن مرض فكري مستوطن لدينا، حيث قلما نبحث عن العلة في داخلنا، ونشير علي الفور إلي جهة خارجنا نحملها المسئولية، وهو ما اشتهر بنظرية المؤامرة. |
فهناك بعض المؤشرات هي التي نثرت علامات الدهشة والاستفهام أمامنا، فمنذ عدة شهور تناقلت الصحف تصريحا لوزير التربية يعد فيه من يحصل علي 85% بأنه سوف يحتل ما يريد من مواقع فيما يسمي بكليات القمة، ووجه الغرابة هنا، أن من كان يحصل علي هذا المجموع طوال عقد ونصف ماض، كان يبكي ويندب سوء حظه، خاصة إذا كان من التخصص العلمي، علي أساس أن الكليات المرموقة تكاد تقف في حدود القبول بها عند أواسط التسعينيات، وربما تتجاوزها إلي أعلي، فماذا يكون معني هذا التصريح السابق، خاصة وأن نتائج العام الحالي جاءت بالفعل أقل مما كان من قبل؟ |
وما لا يقل عن ذلك أهمية فإن التنبؤ له قواعده المعروفة، وهو عادة ما يعتمد علي اتجاهات الوضع الحالية والسابقة، وهذا التنبؤ لوزير التربية لا يتسق مع هذه القاعدة.وفضلا عن ذلك، كيف يمكن لمسئول تعليمي أن يتنبأ بأرقام بعينها في النتائج إلا إذا كان هذا مؤشراً لأمر لا نعلمه في نفسه، أو كان قد عقد العزم علي تنفيذه؟ |
ومنذ فترة قصيرة أيضا صرح رئيس مجلس الشعب، والذي كان وزيرا سابقا للتعليم، ما معناه أن المجاميع المرتفعة لطلاب الثانوية العامة علامة سوء حال للتعليم وليس العكس كما قد يظن كثيرون؟ أنا شخصيا تعجبت من هذا التصريح أيضا، ذلك أن ظاهرة الارتفاع غير المعقول في المجاميع، ظاهرة بدأت منذ أوائل التسعينيات علي وجه التقريب، فلم لم تلفت نظر فقيهنا القانوني الكبير إلا أيامنا الحالية هذه؟ |
ونحب أن نسجل بداية أننا، مثل عدد غير قليل من المتابعين للشأن التعليمي والمهمومين به، لم نكن نقتنع بهذه المجاميع الخرافية، والتي وصلت في بعض السنوات إلي أن تتجاوز سقف المائة بالمائة، وهو الأمر الذي لم يكن له مثيل في العالم، مما قد يوحي بأن تلاميذنا لا مثيل لهم في الدنيا كلها، بينما واقع الحال يؤكد، وفق مؤشرات عدة، أن العكس هو الصحيح، فعلا، وحقيقة؟! |
بالأمس سألت زوجة باحثة كانت تدرس معي لدرجة الماجستير عن أخبار ابنتها في الثانوية العامة (المرحلة الأولي) فقالت إنها حصلت علي 92.5%، وأن أمها أصيبت بغم وحزن شديدين، وأصبحت في حالة يرثي لها من كثرة البكاء والهم؟ فعجبت حقا، لأنني من جيل كان الحصول فيه علي مثل هذا المجموع يعد خرقا للسنن الكونية، وعجيبة يمكن أن تضاف إلي عجائب الدنيا! |
تذكرت سنة حصولي علي "التوجيهية" عام 1955، بمجموع 68%، الشعبة الأدبية، وكيف أن الناس توافدوا نحوي يهنئون ويباركون ويشيدون بالعبقرية التي تصوروها بحيث استطعت أن أحصل علي مثل هذا المجموع، وفي الوقت نفسه كان زميل لي قد حصل علي مجموع يدور حول الخمسينيات، فالتحق بهندسة القاهرة، وأصبح أستاذا كبيرا مرموقا، لا في مصر وحدها وإنما خارجها أيضا. |
من هنا كنا نتعجب، ما الذي حدث؟ هل كنا "خائبين" وأصبح تلاميذ اليوم عباقرة؟ وإذا كان ذلك حقيقة، لم تتصاعد الشكاوي "من طوب الأرض" من سوء حال التعليم في مصر، وتتالي تدهوره وتراجعه؟ هل يحصل طلاب الأمس، في ظلال تعليم أصبح التغني بجودته موضع إقرار من الجميع، علي درجات أقل كثيرا عن طلاب اليوم، في ظلال تعليم ينضح بسوء الحال وبؤس المآل؟! |
وكنا ونحن نُعِلّم في الجامعات، منذ السبعينيات، نلاحظ التراجع المستمر في مستوي الطلاب الآتين من التعليم العام، بحيث كنا نضطر في بعض الأحيان أن نقوم بما كان يجب أن يقوم به التعليم العام، ونُعِلّم أوليات ومبادئ في مواد التخصص، فتضيق المساحة المخصصة للتعليم وفقا للأساليب الجامعية العالية وتتحول الجامعة إلي صورة أخري من التعليم الثانوي؟! |
|
لقد كتبت عن هذا أكثر من مرة في سنوات سابقة، واسميت ظاهرة المجاميع المرتفعة بأنها تعبر عن "تفوق كاذب" حيث شبهته "بالحمل الكاذب"، وحاولت أن أفسر السر وراء هذا التفوق الكاذب، وليس هنا مجال إعادة ذلك، لأننا بدأنا نعود - فيما يبدو - إلي التراجع في هذه الظاهرة، ظاهرة المجاميع المرتفعة؟ |
لكننا، من ناحية أخري أن المفروض أن نتيجة الامتحان إنما هي صورة لما كتبه الطالب في ورقة الإجابة، إن كان خيرا فخير وإن كان شرا فشر، ولا دخل هنا للوزارة وغيرها، أو هكذا هو المفروض تربويا وموضوعيا. |
والأكثر دهشة حقا أن مدرس رياضة كان مشاركا في أحد برامج "التوك شو" قال بأنهم يجلسون طويلا أكثر من اللازم يصححون في الثانوية العامة، وسط تكدس في أعداد المصححين، وقلة الخدمات، مع الحر الشديد، حتي أنه كان يشعر أحيانا بأنه يري ما يصححه بالكاد، وكان هذا تصريحا خطيرا، لا أدري حقا، كيف مر هكذا دون أن يحدث ضجة! |
وربما نضيف إلي كل هذا، كيف أن العام الحالي لم يشهد تكليف شخصية مسئولة من وزارة التربية أو مراكزها البحثية برئاسة الامتحان العام، وإنما أمسك به وزير التربية نفسه، في الوقت الذي من المفروض فيه أن أمامه تلولا من المسئوليات الأخري، خاصة وقد دلتنا الخبرة القصيرة معه أنه "مركزي" إلي النخاع، يهوي التفتيش علي كل صغيرة وكبيرة، ورؤية وقراءة كل ما يتصل بأعمال الوزارة، حتي وصل الأمر أن يكون من مسئولياته، كم التراب الذي قد يكون علي المناضد في هذا المكان أو ذاك، وما إذا كانت هناك سندوتشات، تناولها البعض في هذه الفترة أو تلك، والزجاجات والأكواب الفارغة؟! |
ثم نضيف إلي ما سبق، تصريحات متوالية لوزير ما يسمي بالتعليم العالي تلمح إلي أن أعداد الطلاب الذين سوف يقبلون للعام المقبل ربما يكون أقل مما سبق، لا بسبب ما يسمي "بالسنة الفراغ"، وإنما هو توجه عام، ومن لا يجد مكانا في جامعات الدولة، فأمامه الجامعات الخاصة، وزاد علي ذلك بأن قرر إدخال صيغ التعليم العالي ذات المصروفات (التعليم المفتوح، والانتساب، والبرامج المميزة، وأقسام اللغات) في قوائم الكليات التي تقبل طلاب ثانوية العام الحالي، وبالتالي يمكن له أن يقلص من عدد الطلاب الذين يرغبون في الالتحاق بكليات الجامعات المجانية، وسوف يتواري هذا ويختفي أمام الرقم العام للمقبولين، فلا ينتبه الرأي إلي التخطيط الشيطاني لتقليص فرص التعليم المجاني أمام الطلاب. |
أصارح القارئ أن من هذا وذاك، وتلك، تركبت أمامي صورة واحدة تشير إلي أن هناك شكلاً من أشكال التدخل ربما حدث، لا بأن يحصل طالب علي أقل ما يستحق، أو العكس، فحاشي لله أن نتهم أحدا أو جهة بمثل هذا، وإنما هناك حيل قانونية، ربما تتصل بتوزيع الدرجات علي الإجابات! |
إن مثل هذه الهواجس تستند إلي خبرة قومية طويلة من حرص علي أن يكون كل صغير وكبير " بفضل توجيهات " المسئول الكبير، هنا أو هناك، فضلا عن فقدان الثقة بالتصريحات الرسمية، ولعل أشد الأمثلة وضوحا وإلحاحا ما حدث بالنسبة لشاب الإسكندرية (خالد سعيد) _ هذه القصة التي حصلت علي اهتمام غير مسبوق، مع أن هناك حوادث أخري مثلها كثيرة، تعودنا أن تحدث، وتختفي بسرعة - وكيف أن أحدا لم يصدق بيان وزارة الداخلية، بل وصل الأمر إلي ما هو أكثر مرارة، أن البعض شكك في تقرير الطب الشرعي، مع أنه جهة المفروض أن تتسم بالموضوعية والشفافية، لكن، كما يقولون "اللي اتلسع من الشربة ينفخ في الزبادي"، وبالتالي، فإن جموع الناس، تتعامل مع الجهات الرسمية بقدر غير قليل من الشك، وهذا في حد ذاته يعبر عن مأساة حقيقية، ذلك أن الحكومة مفروض أنها وكيلة عن الشعب، فماذا إذا ضعفت الثقة بين الوكيل والموكل؟! |