كانت الحركة فى بيت عم صابر على غير المعتاد. هذا البيت الهادىء دائماَ . فجأة ساده الصخب وعمت الحركة أرجاءه وإزدحم بما فيه من بشر جاءوا ليودعوا مصطفى الابن الأكبر لعم صابر . فهذه آخر ليلة له فى القرية وغدا سيرى شمس بلاد أخرى .دولة خليجية كان حلم عمره أن يسافر إليها سعيا وراء رزقاَ أوفر . ومالاَ أكثر . كان مصطفى يعلم تماماَ ما يريد ويسعى بشتى الطرق إلى تحقيق أهدافه . كانت له طموحاته المعلنة التى يعرفها الجميع . كثيرا ما قال أنه يريد الثروة لتساعده فى بناء البيت والأسرة وتمنحه هو وعائلته الرفاهية . كان على يقين كامل أن المال هو الحل السحرى لجميع مشاكل الحياة . لذلك من أجل الحصول عليه يهون كل شىء حتى الأهل والأصدقاء. أما حلمه غير المعلن ورغته المستترة هى أن يكون بيته وأسرته ورفاهيته فى مكان لا يعرفه فيه أحد . بين بشر لا يعرفونه . حتى يمحى من ذاكرة الزمان ما فشل أن يمحيه من ذاكرة الناس . إن فى قلبه جروح وفى روحه شروخ لم يقدر يوما أن يداويها . منذ الصغر وهو محط سخرية الكبار والصغار لا لشىء إلا أنه إبن صابر الأجير الفقير وجليلة بائعة الخضار . لم ينظر أحد إلى ذكائه ولم يهتم أحد بجهاده وإصراره حتى يتعلم ولا يستسلم لظروف الفقر والحاجة مثل بقية إخوته. حتى الانسانة التى دق قلبه من أجلها. رضا بنت الحاج عبدالله لم تعطه أدنى إهتمام ولم تبادله حباَ بحب. رغم أن ظروفهما تكاد تكون متشابهة بإستثناء أن والدتها ربة منزل ووالدها يملك نصف فدان من الأرض يعانى الأمرين فى زراعته ويعانى أكثر حتى ينفق من ريعه على بيته وأسرته . كل ذلك كان يدفع مصطفى دفعا إلى الغربة حتى يكون كما يريد. على الأقل لن يناديه هناك أحد قائلا مصطفى إبن جليلة.
ـ**كان ما يحدث فى بيت عم صابر من هرج ومرج ورياء وتملق من المودعين يراه مصطفى أكبر دليل على صحة وجهة نظره . الآن بمجرد إقدامه على السفر أصبح مهماَ وكبار القرية يأتون لتوديعه . وغيرهم من الناس مَن جاء ليذكره أن لا ينسى أبناءهم عندما يفتح الله عليه ويرسل لهم ليلحقوا به . حتى أقاربه يودعونه وهم يذكرونه أن الأقربين أولى بالمعروف وأنه حين يمن الله عليه من فضله من واجبه أن لا ينساهم . كان مصطفى لا يبالى بكل هذه الأحاديث يجلس معهم شارد الذهن . يبحث فى وجوه النسوة اللاتى يدخلن البيت أو يخرجن منه . آملا أن يراها .يرى رضا ربما للمرة الأخيرة فى العمر. ويسرح بخياله متمنيا أن تكون نظرتها له تغيرت وأن سفره ربما يجعلها تفتح قلبها له ويسافر على وعد بالعودة إليها . فهى من أرادها وتمناها طول العمر . لكن قاربت الليلة على الانتهاء وهى لم تأتى . وخلا البيت من المودعين إلا قليلا من الأقارب وأصدقائه الثلاثة . خالد إبن الشيخ عيسى إمام الجامع . وعاصم إبن الحاج مأمون تاجر الغلال وصاحب أكبر محل بقالة فى القرية . وعبد العزيز إبن الأستاذ جادالله مدرس التاريخ . مزيج عجيب جمع بين الدين ممثلا فى خالد والمال الذى يملكه عاصم والعقل لدى عبد العزيز والطموح عند مصطفى . كانوا مثل سلسلة متشابكة الحلقات لا يستطيعون الانفلات من بعضهم . ومع ذلك كان لكل منهم حياته ونزواته . كان حديثهم فى هذه الليلة عادياَ متحفظاَ بعض الشىء تجنبوا فيه الضحك والسخرية قدر الامكان . ليحفظوا للحظة الوداع جلالها . رغم أن كل منهم يعلم فى قرارة نفسه أن سفر مصطفى قد فرط عقد صداقتهم الحميمة وأنهم منذ هذه اللحظة سيفترقون . ويعيش كل منهم حياته وينشغل عن الآخرين بهمومه . قطع حديثهم صوت طرقات على الباب تبعه صوت أنثوى ساحر منادياً من فى الداخل ثم صوت الست جليلة وهى تفتح الباب مرحبةَ بمن فى الخارج . شخصت أنظار الشباب فى ترقب لتعرف صاحبة هذا الصوت الخلاب الذى مس شغاف قلوبهم وملأهم بالرغبة التى أعجزتهم حتى عن التخمين فى من تكون ؟؟؟؟؟؟؟؟