بقلم :الدكتور عبد الله فوزى الشاعر الكبير محمود سامي باشا البارودي هو باعث الشعر العربي في العصر الحديث، (1255-1322هـ) = (1839-1904م)[1]، اعترف له مؤرخو الأدب الحديث ونقاده بذلك، ومنهم الأستاذ عباس محمود العقاد الذي يقول: (وإمام الشعراء في هذا الطور الحديث هو بلا ريب ولاخلاف محمود سامي البارودي، صاحب الفضل الأول في تجديد أسلوب الشعر وإنقاذه من الصناعة والتكلف العقيم، ورده إلى صدق الفطرة، وسلامة التعبير).[2]وقد ترك لنا البارودي عددا من آثاره الأدبية، وهي: ديوانه، ومختاراته الشعرية المسماة بمختارات البارودي، وكتاب قيد الأوابد، وقد سعدت بدراسة هذا الشاعر وتعرفت عليه أكثر حين اخترت موضوعا لنيل درجة الدكتوراة في البلاغة والنقد يتصل بمختارات البارودي، وعنوانه: (التشبيه في مختارات البارودي دراسة تحليلية). وكانت بإشراف الأستاذ الدكتور عبد اللطيف خليف نائب مدير جامعة الأزهر الشريف سابقا حفظه الله.وقد كنت أتتبع كل ما يصدر عن هذا العلم الكبير من آثار أدبية لم تر النور بعد، وقد شعرت بالسعادة حين أصدر المركز العربي للبحث والنشر في القاهرة 1981م كتاب صغير بعنوان: (أوراق البارودي، المجموعة الأدبية (1): مجموعة شعرية وأربع رسائل تنشر لأول مرة، دراسة وتحقيق وشرح د. سامي بدراوي). وذلك لأن هذا الإصدار يمثل إضافة هامة إلى تراثنا الأدبي في العصر الحديث، بيد أن الكاتبين عن البارودي لم يشيروا إلى هذا الكتاب ضمن آثار البارودي العلمية، فأحببت أن أعرف القارئ العربي بهذا الكتاب.يقع الكتاب في (170) صفحة من القطع الصغير، وألحق به عشر صفحات بخط البارودي، وقد ابتدأ الكتاب بإهداء إلى البارودي، واحتوى على فاتحة من ص (3-5 ) وعقب فاتحة الكتاب ذكر المحقق أهمية الكتاب الجديد، فهو يضم كما ذكر في ص (7): " عملين أدبيين لمحمود سامي البارودي، لم يسبق نشرهما، ولم ترد أية إشارة مباشرة إليهما في كل ما كتب عن البارودي وإنتاجه، وهذا العملان هما: مجموعة شعرية في حوالي سبعمائة بيت، وأربعة رسائل بين مترجمة ومؤلفة، في موضوعات مختلفة". وبين المحقق أن أهمية المجموعة الشعرية أهمية مزدوجة، فهي أولا إضافة من شأنها أن تكمل صورة التراث الشعري لهذا الشاعر الرائد في تاريخ الشعر العربي الحديث، وهي تتيح للدارس التعرف المباشر على طريقة البارودي في تنقيح شعره، إذ إنها أساسا محاولات نظمية صاغها الشاعر في فترات زمنية مختلفة من حياته الفنية.أما الرسائل فوصفها المحقق في ص ( بأنها: "فتح في دراسة انتاج البارودي والتعريف بمدى اهتمامات الرجل الفكرية والأدبية". يلي فاتحة الكتاب فصوله، وهي أربعة، كالتالي:الفصل الأول : المخطوطات دراسة تحليلية ص (11-24). وذكر فيه المحقق ص (13) بأن هذه المجموعة تضم "160 وحدة شعرية ما بين قصيدة ومقطوعة وبيت مفرد، يبلغ مجموع أبياتها قرابة سبعمائة بيت". وأشار إلى أن المخطوطة تخللها بعض الشطب والطمس.الفصل الثاني : الخلفية التاريخية ص (25-37)، وذكر فيه المحقق ص (29) بأن "الذي يدرس شعر البارودي دراسة تحليلية يتبين أنه انعكاس أمين لكل صراعات عصره وتياراته، فهو سجل أمين لعصره من خلال منظور الشاعر المشارك إلى أقصى حد في كفاح العصر، وتطلعاته ونزعاته، وهذا ما يكسب شعر الرجل أخص ما يفرده حتى بالنسبة لشعراء الجيل اللاحق مثل شوقي وحافظ وغيرهما".الفصل الثالث: نص المجموعة الشعرية محققا مع الشرح والتعليق والفهارس ، ص (39-117). الفصل الرابع: نص الرسائل محققة مع الشرح والتعليق، ص (119-169) وهذه الرسائل كما يلي:الرسالة الأولى: وتسمى رسالة السحر الأبيض والأسود، وتتناول نص فلسفي ترجمه البارودي عن الإنكليزية، ولم يحدد أصلها كما أن المحقق لم يستطع العثور على هذا الأصل كما ذكر ص (17).والرسالة الثانية : وتسمى نصائح البد، وهي ترجمة أيضا عن نص هندي، ولا ندري إذا كان البارودي نقلها عن الهندية مباشرة أو عن الإنكليزية، وقد ذكر المحقق ص (17) أن البارودي "لم ينص على أنه هو الذي قام بترجمة الرسالة إلى العربية، وإن كان تنقيحه للغة النص توحي بذلك". وتعالج الرسالتان السابقتان قضية العلاقة بين العقل والمثاليات، أو العلم والدين.والرسالة الثالثة : وتسمى رسالة الفواصل، تضم سبعة وتسعين مادة قوامها اقتباسات من مصادر عربية أو غربية، مع التعليق عليها بنصوص مكملة أو موازية.والرسالة الرابعة: وتسمى رسالة نقد الشعر، وقد ذكر المحقق ص (23): بأن البارودي كتبها "تكملة لكتابه قيد الأوابد كما سجل في صدره، وقد بلغت موادها عشرين مادة، وهي تقوم على إثبات حكم نقدي لشاعر أو ناقد من مشاهير العرب القدماء، لما فيه من لمحة أو نكتة أدبية".وذيل الكتاب باللوحات التي تشتمل على صور الصفحات الأولى والأخيرة من المخطوطات.هذا هو مجمل ما في الكتاب الجديد، وفيما يلي نعرض لمقتطفات مما ورد فيه من الشعر أولا:يرى البارودي أن الشعر صورة عن صاحبه، وتعبير عن حالته السلوكية، يقول ص (81): إذا شئت أن تدري خليقة شاعر فخذها من الشعر الذي هو قائلهوطالما أن الشعر يعبر عن صاحبه، فإن شعر البارودي ينضح يالشعور بالعزة والقوة والكرامة التي هي تعبير عن فروسية الشاعر، وعشقه للحياة الحرة التي ينتزعها بسيفه، يقول ص (91): ومن يرض بالعيش الذليل فإنني أعيش كما أهوى بصدر حساميوالحياة الكريمة لا تكون إلا تحت ظلال السيوف، فلا مجد بغير القوة والشجاعة والقتال، ويذهب الشاعر إلى حد تقديس الشجاعة والفروسية حين يقول ص (73): مراح الأماني في ظلال القواضب ومثوى المعالي في متون السلاهب
وما المجد إلا لامرئ إن ترجحت به سوــرة لم يحتفل بالعواقب
هو العز أو ترك الحياة فإنمـــا حياة الفتى في الذل موت المناقب
وإنا أناس لا تهاب نفوســـنا لقاء الأعادي أو قراع الكتائب
ومن هذه الرؤية التي تقدس الحرية والكرامة والعزة تنبع مشاعر البارودي التي تحتقر الحياة مع الذل والهوان، وترفض الصبر في المواقع التي يضام فيها الحق وتضيع فيها الكرامة، يقول ص (41):ومن أقبح الأشياء صبر أولي النهى على ما يكون الجهل فيه صواب
ويحس الشاعر الذي يملك مشاعر الفروسية والكرامة بالاغتراب حين يجد الناس قد تنكروا له عندما مر بمحنة وتعرض للنفي، وسلب منه صفو الحياة، يقول ص (72):فما إن عرفت الناس والدهر مقبل ولكن عرفت الناس والدهر مدبر
ويشعر البارودي بحنين إلى ماضي صباه الجميل فيقول ص (96):هل لامرئ بعد ريعان الصبا وطر فأي شيء من الأيام أنتظر
وهو برغم شيبه ربما اشتعلت في قلبه نار الحب بسبب منظر جميل رآه، أليست العين رسول القلب؟ يقول ص (96):شب الهوى بعد شيب اللمة النظر والقلب يتبع ما يوحي به البصر
ولكن الشاعر يبقى متمسكا بالفضائل، بعيدا عن الآثام، فالفضائل هي الذخر الباقي للإنسان بعد رحلته عن هذه الحياة، يقول البارودي ص (98): كل شيء ما سوى الفضائل يفنى وأخو الفضل بالبقاء قرينأين إسكنـدر الذي ملك العـا لم أم أيــن بعده قارون
ذهبا غير ذكــرة سوف تفنى بعد حين وكل شيء يحين
وبعد أن ذكرت نماذج من شعر البارودي تمثل إباءه وفروسيته ونفسه العفيفة الكريمة الشجاعة، نذكر نموذجا من نثره وهو يتعلق في النقد الأدبي: جاء في ص (158): "قال الرياشي: أنشدنا بشار بن برد قول الشاعر:وقد جعل الأعداء ينتقصوننا وتطمع فينا ألسن وعيون
ألا إنما ليلى عصا خيزرانـة إذا غمزوها بالأكف تلينفقال: قاتل الله أبا صخر، يزعم أنها عصا، ويعتذر أنها خيزرانة، ولو قال إنها عصا مخ أو عصا زبد لكان قد جعلها جافية، خشنة، بعد أن جعلها عصا، ألا قال كما قلت:ودعجاء المحاجر من معد كأن حديثهـا ثمر الجنان
إذا قامت لحاجتها تثنت كأن عظامها من خيزرانقال مؤلف هذا الكتاب البارودي: إن ذكر العظام في شعر بشار أشد كراهة من ذكر العصا، لأن الشاعر يلزمه أن يتجنب الألفاظ الجافية في النسيب، وهذه اللفظة أشبه أن تكون في وصف حرب منها في الغزل، على أن قوله : إذا قامت لحاجتها ..أيضا فيه نظر، ولو قال إذا قامت لزينتها أو لمشيتها بدل قوله : لحاجتها، لذهبت الهجنة".وهذا النص يدل على الاتباعية في النقد عند البارودي، فهو متأثر بمناهج القدماء الذين يفضلون وضع لفظة مكان أخرى، بعيد عن مذاهب النقد المعاصرة التي تتناول النص كوحدة متكاملة وتعمل رأيها فيه وفقا للمذهب الأدبي الذي تنتمي إليه.وبعد ما قدمته من تعريف بهذا الكتاب أستطيع أن أقول بكل ثقة إن هذا الكتاب يمثل إضافة تراثية قيمة لنتاج البارودي الأدبي، ولا شك أن الباحثين حول الأدب الحديث بصفة عامة والبارودي بصفة خاصة سيجدون فيه مادة تساعدهم في اكتشاف العالم الداخلي والجو النفسي لباعث الشعر العربي الحديث محمود سامي البارودي.