المنهج النبوي في بناء العلاقات
المقدمة
الحمد لله الذي علّم بالقلم .. علّم الإنسان ما لم يعلم .. والصلاة والسلام على من أوتي جوامع الكلم سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه واهتدى بهديه في العالمين .. أما بعد ..
تُعَد قضية العلاقات من أبرز القضايا التي تحتل أولوية ، وتنال اهتمامًا على الصعيدين العالمي والمحلي ، وذلك لما تحظى به من سمات وخصائص تجعلها في بؤرة الاهتمامات ، وصدارة الأولويات بين الدول والشعوب . فأول علاقة ظهرت على مر العصور والأزمان ( الأسرة ) حيث يبنى المنهج وتتحدد العلاقات الشخصية ، وتتضح المعالم ، وفيها تتشكل العادات والاتجاهات ، وتنمو الميول والاستعدادات ، وتنتج القدرات ، وتتكون المهارات ، وهي أول لبنة لتشكيل المجتمع ، وغرس القيم وتحديد مسارات النمو المختلفة ، وبناء العلاقات
لذا كانت عناية الإسلام الفائقة بالأسرة لكونها أول علاقة ، فقد أعطاها أعظم اهتمام وأكبر تقدير باعتبارها المكان الذي ينبثق منه الأفراد الذين هم شر يان الأمة النابض بالحياة ، وعماد قوتها وأملها المنشود ومستقبلها المأمول .
وقد بنى الرسول صلى الله عليه وسلم المنهج القويم في بناء هذه العلاقات ، ثم نهج نهجه سلفنا الصالح ، ومن خلال ذلك نعرض بعض المناهج الأساسية التي وضعها لنا الرسول صلى الله عليه وسلم في بناء العلاقات . وتبدأ هذه العلاقات بين المجتمع من خلال تربية الأبناء -التثقيف وأثره الحوار الهادئ – الابتسامة - الإخاء – الرحمة - وغيرها كثير .
1) تربية الأبناء :
ينشأ الأبناء داخل المجتمع الذين هم أساس تآلفه وتكافؤه ، ففي البيت مثلاً تتأجج عاطفة الأبوة والأمومة في نفس الأبوين ، وتفيض من قلبيهما الأحاسيس والمشاعر النبيلة ، ولا يخفى ما في هذه الأحاسيس والعواطف من أثر كريم ونتائج طيبة في رعاية الأبناء ، والسهر على مصالحهم والنهوض بهم نحو حياة مستقرة هادئة ، تحمل أهم المصالح الاجتماعية ، وبناء العلاقات السليمة بين الأفراد والأسر والجماعات حتى يصبح ذلك المجتمع ذو علاقات مترابطة . ومن ذلك منهجه صلى الله عليه وسلم في تعليم الطفل الصدق ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ قال للصبي تعال هاك ولم يعطه فهي كذبة ) أخرجه أحمد ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله علية وسلم قال : ( ألا وإياكم والكذب فإن الكذب لا يصلح بالجدل ولا بالهزل ، ولا يعد الرجل صبيه ثم لا يفي له ) أخرجه أحمد .
ومن المعلوم ما أودعه الله في قلب الأبوين من الشفقة والمحبة والاهتمام بأمرهم ، ولقد صوّر الله في القرآن الكريم المشاعر الأبوية الصادقة أجمل تصوير ؛ فيجعل الأبناء تارة زينة الحياة (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) (الكهف: من الآية46) ، وتارة نعمة عظيمة ( وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً) (الإسراء: من الآية6) .
ولقد توالت الآيات في فلذات الأكباد وثمرات الفؤاد ، ومن ذلك كله نعلم العاطفة الفياضة التي أودعها الله في قلب الأبوين نحو الأبناء و ما ذاك إلاّ ليساقا سوقًا نحو تربيتهم ورعايتهم والاهتمام بشؤونهم ومصالحهم ، وإعدادهم الإعداد الكامل في جميع شؤون الحياة ؛ حتى يخرجون إلى المجتمع وهم قادرين على تكوين العلاقات الصحيحة في البيت والمجتمع والمدرسة ، وقد قال ابن القيم رحمه الله في العناية بسلوك الأبناء : ( وكم ممن أشقى ولده وفلذة كبده في الدنيا بإهماله وترك تأديبه وإعانته على شهوته ، ويزعم أنه يكرمه وقد أهانه ، وأنه يرحمه وقد ظلمه ، ففقد انتفاعه بولده وفوّت عليه حظه في الدنيا والآخرة ) .
2) التثقيف وأثره في بناء العلاقات :
ونعني بذلك توعية المجتمع في جوانب ، وخاصة الجوانب التي تحفظ استمرار يته والحفاظ على أسباب الألفة ، ومنها تشييد صرح المحبة بين أفرادها ، وتثقيف أفراد المجتمع بما لهم وما عليهم من الواجبات والحقوق ، و الحذر من الأمور التي تهدم كيان المجتمع وتمزق تماسكه وتزعزع أركانه وانفصال عراه .
ومن أهم الجوانب التي يجب أن يثقف فيها المجتمع :
أ ) جانب العدل . . قال تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ ) (النحل: من الآية90) . وقد وضح ذلك في منهج الرسول صلى الله عليه وسلم فعن عبد الله بن عمرو وبن العاص رضي الله عنهما ( إن المقسطين عند الله على منابر من نور الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم و ما ولو ا) رواه مسلم .
وقد حكى بن إسحاق أن الرسول صلى الله عليه وسلم عدل صفوف أصحابه يوم بدر وفي يده قدح يعدل به القوم ، فمر بسواد بن غزية حليف بني عدي بن النجار وهو مستنتل من الصف ( أى خارج عن الصف ) فطعنة في بطنه بالقدح وقال : استو يا سواد فقال : يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل فأقدني أي ( دعني أقتص منك ) فأفعل بك مثل ما فعلت بي ، فكشف الرسول صلى الله عليه وسلم عن بطنه وقال استقد ، قال : فاعتنقه فقبّل بطنه ، فقال عليه الصلاة والسلام ما حملك على هذا يا سواد ؟ فقال : يا رسول الله حظر ما ترى ، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك ، فدعا له الرسول صلى الله عليه وسلم بخير ) .
ب ) العفو :
قال تعالى (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف:199) وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : ( كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيًا من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول : اللهم أغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ) متفق عليه .
ج ) الكرم :
قال صلى الله عليه وسلم : ( المؤمن غر كريم والفاجر خب لئيم .. وفي حديث آخر ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدًا ) صحيح الترمذي.
3) الحوار الهادئ :
ينبغي استخدام الحوار الهادئ مع الطرف الآخر لما له من دور في تنمية العقل وتوسيع المدارك وحيث يتمكن من التعبير عن الأفكار والمطالبة بالحقوق . لذا كان مهمًا إقامة الحوار الهادف والهادئ وهذا يتطلب احترام رأي الطرف الآخر ، وحُسْن الاستماع إليه فيما يعني له من الأفكار وطلب المشورة من الغير سواء كان أبًا أو أمًا أو أخًا أو رفيقًا في العمل أو جارًا ، وكلاَ حسب ما يناسبه – فإن ذلك يمنحهم شعورًا بالثقة وإحساسًا بالمسئولية ، ويدفعهم إلى الجدية في تناول الأمور ، ويزيد رابطة العلاقة.
وقد تجلى ذلك في قصة سيدنا إبراهيم مع ابنه إسماعيل حينما رأى في المنام أنه يذبحه : ( يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (الصافات: من الآية102)
وهذا الموقف يحمل في طياته العديد من المضامين التربوية ، لاسيما ما يرتبط بطبيعة العلاقة الودية ؛ فالأدب ينتج أدبًا ، والاحترام يفرز طاعة ، وتوقيرًا ، و الحوار الهادئ القائم على الاقتناع يضبط السلوك ويوجه إلى المسار الصحيح .
ونرى ذلك واضحًا في منهج الرسول صلى الله عليه وسلم عندما جاءه فتى يستأذنه في الزنا وهو أحب شيء إلى قلبه ، فلم يعنّفه عليه الصلاة والسلام ، وإنما حاوره : ( أتحبه لأمك ؟ والفتى يستنكر والرسول صلى الله عليه وسلم يسأل : أتحبه لأختك – لعمتك – لخالتك ؟ والفتى يستنكر ، هنا يرد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم : كذلك الناس لا يحبونه . فينصرف الغلام بعد محاورة هادئة مقنعة ليس شيئًا أبغض إليه من الزنا ) .
وهذا الأدب التربوي في الحوار سار منهجًا للصحابة والتابعين والأئمة ، ومن ذلك الحوار الذي دار بين أمير المؤمنين عمر بن الخطاب والولد الذي اشتكاه أبوه لعقوقه ، فلما استدعاه عمر رضي الله عنه قائلاً ما حملك على عقوق أبيك ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ما حق الولد على أبيه؟ قال : أن يحسن اسمه ، ويحسن اختيار أمه ، وأن يعلّمه الكتابة . قال : يا أمير المؤمنين .. إن أبي لم يفعل شيئَا من ذلك ، فالتفت عمر إلى الأب قائلاً لقد عققت ولدك قبل أن يعقك .
4) الابتسامة في منهج الرسول صلى الله عليه وسلم :
حينما نقلّب في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينقضي تعجبنا من جوانب العظمة والكمال في شخصه صلى الله عليه وسلم .. ومن تلك الجوانب : ذلك التوازن والتكامل في أحواله كلها واستعماله لكل وسائل تأليف القلوب ، ومن أكبر تلك الوسائل التي استعملها صلى الله عليه وسلم تلك الابتسامة التي لا تكلف شيئًا ، ولا تستغرق أكثر من لمحة نظر تنطلق من الشفتين لتصل إلى القلوب ، فلا ننسى أثرها في سلب العقول ، وتصفية وكسر الحواجز مع بني الإنسان .. تلكم هي الصدقة التي كانت تجري على شفتيه الطاهرتين .. إنها الابتسامة .
فهذا جرير رضي الله عنه يقول كما في الصحيحين : ( ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت ولا رآني إلا وابتسم في وجهي .
ويأتي إليه الأعرابي بكل جفاء وغلظة ويجذبه جذبة أثرت في صفحة عنقه ويقول : يا محمد مُرْ لي من مال الله الذي عندك ! فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك ، ثم أمر له بعطاء .
فسبحان من رفع قدره حتى صار ضحكه يحفظ في بطون الأسفار كأنه أعجب قصة من قصص العبر والعظات ، وتبارك من شرف منزلته حتى جعل ضحكه يرويه الثقات عن الثقات . فصلى الله عليه وعلى أصحابه وآله ما تنفس صباح و عسعس ليل .
5) الأخوّة في منهج النبي صلى الله عليه وسلم :
لقد اقتضت حكمة الله في خلقه أن جعل الإنسان ميالاً بطبعه إلى مخالطة الآخرين ومجالستهم والاجتماع بهم ، وتكوين العلاقات التي لها أثرها في الفكر والمنهج والسلوك ، وهي سبب فعال في مصيره وسعادته الدنيوية والأخروية ، فالمرء يتأثر بجلسائه ، وقد دل على ذلك الشرع والعقل والواقع والتجربة والمشاهدة .
ويتضح ذلك في منهج الرسول صلى الله عليه وسلم حينما آخى بين سعد بن الربيع وبين عبد الرحمن ابن عوف فقال سعد بن الربيع : إني أكثر الأنصار مالاً فأقسم لك نصف مالي .
والمتآخون تربطهم علاقة قوية هي المحبة في الله تعالى ، فقد ورد في الحديث القدسي : ( قال صلى الله عليه وسلم : قال الله تعالى : ( وجبت محبتي للمتحابين في والمتجالسين في والمتزاورين في والمبتاذلين في ) رواه مالك .. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال الرسول صلى الله عليه وســــلم : ( إن الله يقول يوم القيامة : أين المتحابون بجلالي ؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلى ظلي ) رواه مسلم .
وقال عمر بن الخطاب في فضل الأخوّة : ( عليك بإخوان الصدق ، فعش في أكنافهم فإنهم زين في الرخاء وعدة في البلاء ) وقال بن حبان رحمه الله : ( العاقل لا يصاحب الأشرار لأن صاحبه صاحب سوء قطعة من النار تعقب الضغائن لا يستقيم وده ولا يفي بعهده ) .
فيا مَنْ تحبين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .. الزمي جلساء الخير وأهل الصلاح ، واستفيدي من علومهم وأخلاقهم ، واستنيري بآرائهم وتوجيهاتهم فإنهم عدة في الدنيا والآخرة .
6) حماية العلاقات وبناءها على الرحمة :
هيأت تشريعات الإسلام الأجواء المناسبة للعلاقات الأخلاقية الفاضلة ، فحثت على مكارم الأخلاق في التعامل مع الآخرين .. لذلك لابد أن تكون هذه العلاقات قائمة على الرحمة التي وصف الله بها نفسه ، ووصف بها النبي صلى الله عليه وسلم . قال تعالى : ( كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) (الأنعام: من الآية54) ، وقوله تعالى : (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) (آل عمران: من الآية159).
وقد كان منهجه صلى الله عليه وسلم مبنيًا على الرحمة ؛ فعن قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إني لأقوم في الصلاة أريد أن أطيل فيها فأسمع بكاء الصبي فأتجاوز في صلاتي كراهية أن أشق على أمه ) أخرجه البخاري .
ومن رحمته صلى الله عليه وسلم فِعْله مع حاضنته أم أيمن ( بركة الحبشية ) فقد كان يحبها ويحنو عليها ، وقد كانت ملكًا له فأعتقها وزوجها ، فولدت أيمن ، وكان يقول صلى الله عليه وسلم : ( أم أيمن أمي بعد أمي .. أم أيمن بقية من أهل بيتي ) رواه ابن عساكر .
ومن رحمته صلى الله عليه وسلم أيضًا : تقديم حق الوالدين على المصلحة العامة ؛ فعن أنس رضي الله عنه قال : ( أتى رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني أشتهي الجهاد ، ولا أقدر عليه ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : هل بقي من والديك أحد ؟ قال : أمي ، قال صلى الله عليه وسلم: قابل الله في برها ، فإذا فعلت ذلك فأنت حاج ومعتمر ومجاهد ) رواه الطبراني
نسأل الله الرحمن الرحيم أن يجعلنا من عباده الرحماء وأن يحشرنا تحت لواء من أرسله رحمة للعالمين صلوات الله وسلامه عليه .