قد ذهب قوم إلى إبطال المجاز، وذهب آخرون إلى إثباته.
وإنما كلامنا فيه على مذهب من أثبته، لأنه الصحيح الذي لا يجوز غيره، لقوله تعالى: " وما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُول إِلاّ بِلَسانِ قَوْمِه " . وقوله: " بلسان عربي مبين " . ولا وجه لإطالة القول في الرد على من أنكره، لأنا لم نقصد في كتابنا هذا مناقضة أحد من أهل المقالات، وإنما قصدنا الكلام في أصول الخلاف. فأقول والله الموفق إن المجاز ثلاثة أنواع: ونوع يعرض في أحوالها المختلفة عليها من إعراب وغيره.
ونوع يعرض في التركيب وبناء بعض الألفاظ على بعض.
مثال النوع الأول: الميزان، فإنه يكون المقدار الذي تعارفه الناس في معاملاتهم، ويكون العدل: تقول العرب: وازنت بين الشيئين إذا عادلت بينهما ورجل وازن: إذا كانت له حصافة ومعرفة قال كثير
ويقال للعروض: ميزان الشعر، وللنحو ميزان الكلام.
ويروى أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عرض عليه عود غناء، وقيل له: ما هذا؟ فقال هذا هو الميزان الرومي، أراد أنه ميزان الغناء.
وقال بعض الشعراء يرثي عمر بن عبد العزيز رحمه الله:
قد غيّب الدافنون اللّحد إذ دفنوا ... بدير سمعان قسطاس الموازين
فشبه عمر رضي الله عنه بالميزان لعدله.
ومن ذلك: السلسلة، فإن العرب تستعملها حقيقة، وتستعملها مجازاً على ثلاثة أوجه: الأول: أن يزيدوا بها الإجبار على الأمر والإكراه، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم عجبت لقوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل.
والثاني: أن يريدوا بها المنع من الشيء والكف عنه كقول أبي خراش:
فليس كعهد الدار يا أُمّ مالك ... ولكن أحاطت بالرقاب السّلاسل
يريد بالسلاسل حدود الإسلام وموانعه التي كفت الأيدي الغاشمة عن غشمها. ومنعت من سفك الدماء إلا بحقها. ومن هذا قول الله تعالى: " إِنَّا جعلنا في أَعناقِهم أَغْلالاً فَهي إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُقْمَحُونَ " والثالث: أن يريدوا بها ما تتابع بعضه في إثر بعض واتصل كقولهم: تسلسل الحديث، وتسلسل الماء، ويقال ماء سلسل وسلسال وسلاسل. قال أوس بن حجر:
وأشبرّ نيه الهالكيّ كأنه ... غديرٌ جرت في متنه الريح سلسل
وقالوا سلاسل البرق، وسلاسل الرمل. قال ذو الرمة:
لأُدمانةٍ من وحش بين سويقة ... وبين الجبال العفر ذات السّلاسل
ومن هذا النوع قولهم فلان على الجبل، وعلى الدابة أي فوق كل واحد منهما فهذه حقيقة، ثم يقولون: علاه دين، وفلان أمير على البصرة يريدون بذلك القهر والغلبة. وكذلك قولهم: فلان في الدار وفي البيت. ثم يقولون: أنا في حاجتك، وإنما يريدون: أن حاجتك قد شغلتني فلم تدع في فضلاً لغيرها، فشبهوا ذلك بالمكان الذي يحيط بالمتمكن من جهاته الست، فلا يدع منه فضلاً لغيره.
وهذا كثير جداً في اللغة يكثر إن تتبعناه، فمنه قوله عز وجل: " فأَتى اللّه بنيانهم من القواعد " .
ذهب قوم إلى أن البنيان هنا حقيقة، وأنه أراد الصرح الذي بناه هامان لفرعون، وهو الذي ذكره الله تعالى في قوله: " وقَال فِرعَوْنُ يا هامانُ ابنِ لي صرحاً لعلي أَبلغ الأَسبابَ " .
وذهب آخرون إلى أنه كلام خرج مخرج التمثيل والتشبيه. قالوا: ومعناه أن ما بنوه من مكرهم، وراموا إثباته وتأصيله أبطله الله وصرفه عليهم، فكانوا بمنزلة من بنى بنياناً يتحصن به من المهالك، فسقط عليه فقتله، وشبهوه بقوله تعالى: " ولا يَحِيقُ المكرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بأَهلِه " .
والقولان جميعاً جائزان على مذهب العرب، ألا تراهم يقولون: بنى فلان شرفاً، وبنى مجداً، وليس هناك بنيان في الحقيقة قال عبدة بن الطبيب:
فما كان قيسٌ هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدّما
ويشبه هذا المعنى الذي ذهبوا إليه قول ابن أحمر:
رماني بأمر كنت منه ووالدي ... بريّاً ومن جال الطوّىّ رماني
ويروى من جول الطوى والجال والجول ناحية البئر من أسفلها إلى أعلاها ومعناه: رماني بأمر رجع عليه مكروهه، فكأنه رماني من قعر البئر فرجعت رميته عليه فأهلكته. هكذا رواه قوم، وفسروه والمعروف: ومن أجل الطوى. وإنما كان يخاصمه في بئر يدعيها كل واحد منهما. فقال: رماني بأمر أنا ووالدي بريئان منه من أجل ما بيني وبينه من الخصام في الطوى، وعلى هذا يدل الشعر لأن قبله:
فلما رأى سفيان أن قد عزلته ... عن الماء مرمى الحائم الوحدان
ومن هذا النوع قوله عز وجل: " وإِنْ كانَ مكرُهم لِتَزُولَ مِنهُ الجبالُ " .
قوم يرون الجبال ها هنا حقيقة، وأنه أراد بذلك ما كان من صعود نمروذ بن كنعان في التابوت نحو السماء، فلما كر منحدراً نحو الأرض ظنته الجبال أمراً من عند الله، فكادت تزول من مواضعها.
وقوم آخرون يقولون: الجبال ها هنا تمثيل لأمر النبي صلى الله عليه وسلم أي إنهم مكروا به ليزيلوا أمره الذي قد رسخ رسوخ الجبال التي لا يستطاعه على إزالتها من مواضعها. والعرب تشبه الشيء الثابت بالجبل الشامخ، والصخرة الراسية، ألا ترى إلى قول زهير:
إلى باذخ يعلو ... على من يطاوله
وقال السموءل بن عادياء: