تقديم:
تختلف مدلولات الوعي من مجال إلى آخر، ومن فيلسوف إلى آخر، فمنهم من يقرنه باليقظة في مقابل الغيبوبة أو النوم. ومنهم من يقرنه بالشعور فيشير إلى جميع العمليات السيكولوجية الشعورية. ويمكن أن نجمل الدلالة العامة للوعي فيما يلي: إنه ممارسة نشاط معين ( فكري، تخيلي، يدوي...الخ)، وإدراك تلك الممارسة. و يمكن تصنيف الوعي إلى أربعة أصناف وهي:
1) الوعي العفوي التلقائي: إنه ذلك النوع من الوعي الذي يكون أساس قيامنا بنشاط معين، دون أن يتطلب منا مجهودا ذهنيا كبيرا، بحيث لا يمنعنا من مزاولة أي نشاط آخر.
2) الوعي التأملي: إنه وعي يتطلب حضورا ذهنيا قويا مرتكزا في ذلك على قدرات عقلية كلية كالذكاء أو الإدراك أو الذاكرة.
3) الوعي الحدسي: وهو الوعي المباشر و الفجائي الذي يجعلنا ندرك الأشياء أو العلاقات، أو المعرفة، دون أن نكون قادرين على الإدلاء بدليل أو استدلال.
4) الوعي المعياري الأخلاقي: وهو الذي يسمح لنا بإصدار أحكام قيمة على الأشياء والسلوكيات بحيث نرفضهما أو نقبلهما بناءا على قناعات أخلاقية، وغالبا ما يرتبط هذا الوعي بمدى شعورنا بالمسؤولية اتجاه أنفسنا و اتجاه الآخرين.
و على هذا الأساس فالوعي هو إدراكنا للواقع و الأشياء، إذ بدونه يستحيل معرفة أي شيء. لذلك يمكن وصف الوعي بأنه « الحدس الحاصل للفكر بخصوص حالاته و أفعاله». فهو بمثابة "النور" الذي يكشف للذات عن بواطنها.
أما اللاوعي فهو يدل إلى حد ما على مقابل الوعي. و هنا يمكن الحديث عن اللاشعور باعتبار السلوك اللاواعي أو الذي يصبح "واقعة نفسية".
انطلاقا من هذا التصنيف الدلالي لمفهوم الوعي نطرح التساؤلات التالية:
ما هو الوعي؟ ما شكله؟ هل هو وعي بسيط و مباشر؟ أم غير ذلك؟ ما مضمونه الأول؟ ماذا أدرك في فعل الوعي على وجه الدقة و التحديد؟ ثم ما علاقة الوعي باللاوعي؟ و هل يكفي أن نكون على وعي لمعرفة أنفسنا؟ هل الوعي هو أساس حياتنا الواقعية؟ أو الوهم هو الأصل؟.
مشكلة الوعي:
موقف راسل:
حلل برتراند راسل عن الوعي وربطه بالمدركات الحسية أو الخبرات الحسية حيث أكد على ضرورة عدم فصله (أي الوعي) عن مثيرات العالم الخارجي فهو عبارة عن ردود أفعال اتجاه وسطه. هذا يعني أن الوعي طاقة تميز الإنسان عن الجمادات. و من ثم فإن راسل أكد على تلازم الوعي مع حالة اليقظة، و ليس مع حالة النوم أي أنه غير مستمر في الزمن. وأكد كذلك على ضرورة الانتباه إلى عامل اللغة لأنها، في نظره، جهاز و نظام غير منسق. وهنا نجده يميز بين نوعين من اللغة : لغة مرشدة تمكن من فهم طبيعة العالم الذي نتحدث عنه، ولغة مظللة وخداعة للتفكير. ومن ثمة فإن كثيرا من الفلاسفة الذين اعتمدوا عليها ظلوا وأظلوا.
إن الوعي بالذات عند راسل يعني أمرين هما : دخول هذا الإنسان في علاقة مع العالم الخارجي، واكتشافه لذاته ولأفكاره و لعواطفه. أي أن هناك امتحانا للإنسان بإدراك وجوده الذاتي. وهنا يكمن مفهوم الوعي عند راسل و يتجلى. فعندما ندرك معطيات العالم الخارجي فإننا نكون، حسب راسل، فقط في مجال ردود الفعل اتجاه العالم، ونشترك في هذه الخاصية مع الجمادات. هذا يدل على أن الوعي لا يتحدد عند مستوى إدراك العالم الخارجي بل هو فقط رد فعل على النحو الذي تِؤذيه الحجارة و الجمادات عموما.
يرى راسل أنه يستحيل إدراك المادة إدراكا مباشرا، و أن لها وجودا واقعيا ملموسا. و يؤكد راسل على المعرفة القائمة على التجربة وعلى الحواس وعلى إدراك الكليات إدراكا فوريا ومباشرا. وهو في الوقت نفسه يؤكد على التمييز بين الذات الواعية و الموضوع. وعلى سبيل المثال لا الحصر إننا لا ندرك مدينة الرباط و مراكش إدراكا جزئيا ، بل إننا ندركهما في إطار العلاقة الخارجية القائمة بينهما، و هذه العلاقة ليست من طبيعة نفسية صادرة عن الذات العارفة، ولكنها مستقلة عنها، تنشأ بطبيعتها في معزل عن فعل المعرفة في حد ذاتها.
مما سبق يتبين لنا أن الجزء الأساسي من مفهوم الوعي مرتبط بمدى إدراكنا للوجود الذاتي. و تحصل هذه العملية بواسطة الاستبطان، مما يدل على أن الاستبطان منهج يسمح و يمكن من ولوج العالم الداخلي في الإنسان وفهم علاقة الذات الواعية بمحيطها الخارجي، أي أنه في هذه الحالة لا يتعلق الأمر بشيء من بين أشياء العالم و الجمادات بل بذات لها طبيعتها الخاصة بها. و من ثمة فالشرط الأساسي لقيام الوعي و كل معرفة حسب راسل هو إدراك الوجود الذاتي للإنسان عن طريق الاستبطان، لأن الوعي ميزة خاصة بالإنسان، وليست فقط مجرد رد فعل اتجاه العالم الخارجي أو أنه فقط إدراك حسي له .
موقف برجسون
إذا كان راسل يجمع بين لفظ الوعي وحالة اليقظة متجاهلا حالة النوم، فإن برجسون يتجاوز هذا الطرح ليؤكد على صيرورة الوعي في الزمن، ليشير به إلى جميع العمليات السيكولوجية الشعورية. فالوعي أو الفكر عند برجسون ذو طبيعة مجردة أي أنه غير ملموس ويرفض أن يقترن بأي طابع نسبي أو ذاتي، حيث أنه دائم الحضور في حياة كل إنسان، لا يقبل القسمة إلى لحظات شعورية مرتبة بشيء ما، أو موقف معين، بحيث تتدفق و تنساب عبر الزمن حتى يصعب التمييز بين لحظاته. إنه إدراك الذات وللأشياء في ديمومتها و استمراريتها. أما تعريف الوعي بشكل واضح ونهائي فإنه يطرح صعوبة كبرى أدت ببرجسون إلى ربط الوعي بالذاكرة التي تحفظ ماضي الإنسان في الحاضر. إن الوعي أيضا قدرة على تجاوز الحاضر عقليا وتمثل صورة المستقبل.فالإنسان الذي لا ذاكرة لديه لاوعي له، لذلك فشرط وجود الوعي هو وجود الذاكرة و استقراره بها، ليصبح انفتاحا على الحاضر و الماضي و المستقبل. فعندما نفكر في أي لحظة معينة فإننا نجد هذا الفكر يهتم بالحاضر و بما هو كائن، لكن من أجل تجاوز ما سوف يكون في المستقبل و هذا يعني أنه لا يوجد وعي عند برجسون دون مراعاة حياة المستقبل. فالمستقبل هو الذي يجعل الفكر يتقدم باستمرار دون انقطاع في الزمن و يجره إليه. لفهم طرح برجسون بصدد تعريف مفهوم الوعي نستحضر أنه ينتمي إلى فلسفة الحياة والصيرورة و الحركة، و نؤكد على مجالين هامين في فلسفته عموما : مجال المادة المتميزة الصلبة، و مجال الحياة والوعي المتواصل، وهذا يقع في نطاق الحدس فعن طريقه يمكن إثبات الحقيقة متجسدة في الصيرورة و ليست مجرد الحياة والوعي.
موقف ابن رشد
أما إبن رشد فقد تناول مفهوم الوعي في علاقته بالعالم الخارجي وطرح السؤال: هل الحس شرط لقيام الوعي بموضوعات العالم؟ يرى ابن رشد على نحو معلمه أرسطو أن الإدراك الحسي شرط أولي و أساسي لقيام كل معرفة ووعي بموضوعات العالم الخارجي، على خلاف راسل الذي يعتمد منهج الاستبطان بدل منهج الاستقراء في إدراك العالم الداخلي. و لكن هل الإدراك الحسي بالمعنى الذي تقدم به ابن رشد هو الشرط الكافي و الأولى لقيام كل معرفة و كل وعي بموضوعات العالم الخارجي؟.
موقف ميرلوبونتيي
للإجابة على هذا التساؤل، ينطلق موريس ميرلوبونتيي من فينومينولوجيا الإدراك الحسي ليصل إلى فينومينولوجيا الوعي و الخبرة، لأجل الكشف عن الطابع المفتوح للخبرة البشرية بصفة عامة. و يقصد بالإدراك الحسي تلك العودة إلى الأشياء و الرجوع إلى المعرفة الأولية عن كل علم من أجل الوصف وليس من أجل التركيب. و يتساءل : هل تعني العالم الخارجي؟ ويقول إن العالم ليس بمثابة الموضوع الذي يمثل أمام الذات الواعية، إن هذه الذات ليست لها القدرة على تملكه. و لكنه الوسط الطبيعي أو المجال الأولي الذي تتحقق فيه إدراكاتنا الحسية لعالم و جل أفكارنا. إن الوعي الإنساني حسب ميرلوبونتي يدخل في علاقة مشاركة مع العالم الخارجي، فيه تتحقق الإدراكات الحسية التي يمكن اعتبارها شرط أساسي لقيام الوعي بهذا العالم.
الــــوعـي واللاوعـي:
* موقف مدرسة التحليل النفسي:
إن اللاشعور، أو اللاوعي، حسب مدرسة التحليل النفسي، هو أهم منطقة سيكولوجية نستطيع بموجبها أن نفهم سلوكاتنا سواء منها السوية أو الشاذة . ومن هذا المنطلق نستطيع أن نقول بأن الشخصية في تصور فرويد بمثابة " جبل الجليد " :أي أن ما هو خفي أضخم بكثير مما يظهر . فكيف يتشكل اللاشعور ؟
يعتقد فرويد أن بناء شخصيتنا يتكون من ثلاثة مكونات ، العلاقة فيما بينها هي الكفيلة بتفسير حياتنا النفسية . وهذه المكونات هي:
· الهو : وهو نسق سيكولوجي يتألف من المكونات الغريزية والدوافع والانفعالات الموروثة . ويتمركز الهو حول مبدأ اللذة أو ما يصطلح فرويد على تسميته بنزعة الليبيدو. لأن همه الأساسي هو الحصول على اللذة ودفع الألم، حيث لا يعرف معنى التأجيل. ومن خصائص الهو أنه بعيد عن المنطق والعقل لكونه يتصف بالتهور والاندفاع، ولا يتمثل السيرورات المنطقية والأخلاقية … إلخ.
· الأنا: وهو الجزء من الهو الذي تلاءم مع الواقع . و هو النظام السيكولوجي الذي يتصف - على عكس الهو - بالتعقل والرزانة والحكمة. ومن ثمة، فإنه يتمركز حول مبدأ الواقع ، وهمه الأساسي هو تلبية رغبات الهو بشكل يتلاءم مع الواقع ولا يثير غضب الأنا الأعلى .
· الأنا الأعلى : وهو النظام النفسي الذي يمثل جميع القيم الأخلاقية والعادات الاجتماعية.ويتشكل الأنا الأعلى بفعل الأوامر والنواهي ( التربية ) ؛ ومنه نستوحي ما ينبغي وما لا ينبغي القيام به . وهو ما يماثل في حياتنا النفسية مفهوم المثالية الأخلاقية، وما يقابل في الاصطلاح الأخلاقي العادي مفهوم الضمير .
إن الأنا إذن يوجد في بؤرة الصراع بين ضغط الهو، ورغبات الواقع، ومتطلبات الأنا الأعلى . ومن هذا المنطلق نفهم لماذا تقرن الفرويدية الشخصية السوية بقوة الأنا.. فالرغبات التي لن يستطيع الأنا تلبيتها فإنه يعمل على كبحها ثم كبتها في اللاشعور. هكذا يتشكل اللاشعور ويتضخم. ولكي يتشكل الأنا بصورة جيدة لابد من إحاطة الطفل بتربية واعية وتفهم واضح لمراحل النمو الجنسي لديه ( المرحلة الفمية ، المرحلة الشرجية، المرحلة القضيبية، مرحلة الكمون، المرحلة التناسلية )، والعمل على كبت العقدة الأوديبية بطريقة سليمة. هكذا نستطيع القول بأن الأنا يوجد كذلك تحت ضغط مكبوتات اللاشعور لأنها تظل يقظة، وتتحين الفرص التي تضعف فيها رقابة الأنا لتخرج إلى السطح. والمرض النفسي (اضطرابات الشخصية) عبارة عن تدفق مكبوتات اللاشعور، وتصريف مفضوح لرغبات الهو... وحتى لاتصل الشخصية إلى هذه المرحلة الحرجة، فإنها تلجأ (للتخفيف من حدة التوتر النفسي) إلى ميكانيزمات دفاعية (مثل الكبت، والتبرير، والتقمص، والإسقاط، والنكوص، والإعلاء...الخ) . كما أن التحليل النفسي يعتبر في حد ذاته منهجا علاجيا، وإعادة تربية. ويعتمد التحليل النفسي، من أجل سبر أغوار اللاشعور، على عدة طرق، أهمها : التنويم المغناطيسي، والتداعي الحر، وتحليل وتأويل تجليات اللاشعور (الأحلام، فلتات اللسان، زلات الأقلام، النسيان ...الخ)
إن نظرية فرويد في اللاّوعي تميز بين فِعْلِيَّةِ السّلوك، وحقيقة السّلوك. ففعليّة السّلوك تعني الأفعال والأعمال الّتي يقوم بها الفرد، بما هي أفعال وأعمال خامّ وظاهرة. أمّا المُرَادُ بحقيقة السّلوك، فهو المدلول أو المعنى الحقيقيّ له، أي العلّة المتخفّية وغير الظّاهرة فيه. فأنا، مثلا، قد أقوم بعمل ما، كأن أسرق كتابا من على رفّ المكتبة : وهذا الفعل فعلي، من دون شكّ، وسلوكي، إلاّ أنّ حقيقته وما قد يُفَسِّرُ مثل ذلك العملالذي قمت به ليست فحسب تلك الظّاهرة بل شيء آخر، أحقّ وأكثر فعليّة، وهو "الهُوَ". فأنا هو الّذي، بلا شكّ قد سرق الكتاب لكن فعل السّرقة ذاك، إنّما هو في حقيقته صورة متفرّعة من فعل معاقبة الذّات. فنظريّة فرويد ترى بأنّ " الذّات ليست وعيا فقط "، وإنّما هي " وعي وهُوَ "، أي أنها وعيان اثنان (وعي أول ووعي آخر) ؛ الوعي الأوّل يكون غير واع بالوعي الآخر، مع انّه هو الأصل فيه !!؟
موقف هوسرل
تقوم نظرية الوعي عند هوسرل على الابتعاد عن التجريبية والروح السيكولوجية التي تفسر الأحداث التاريخية، وتتوقف عند العمليات العقلية، لتكشف مركبات الوعي ذاته، والظواهر نفسها. يرى هوسرل أن المعنى يسبق اللغة وهي نشاط ثانوي يسمي المعاني التي بحوزتنا. وهكذا كانت نظرة هوسرل للوعي ماهوية تعتبر أن العالم ليس سوى شيء يمكن إذابته وتحويله إلى صورة ذهنية. تخيل هوسرل موقعاً متسيداً للذات المبهمة، التي تطبع صورتها على العالم. ورجح كفة الذات على حضور العالم. و قد وصفت هذه النظرية، من طرف خصوم هوسرل، بكونها شكلا من أشكال الوعي البورجوازي.
موقف لاكان
إن الهيئات النفسية التي يضعها فرويد: الأنا الأعلى، والأنا والهو تجد نفسها داخلة في علاقة تجعل التشبيه المكاني المتضمن فيها يختفي. فالأنا الأعلى يصبح هو الرمزي Le symbolique، مجال النظام والقانون، ومكان الخطاب الأبوي (وبذلك ينخرط التحليل النفسي في الانتروبولوجيا: إذ أن الرمزي هو نظام الثقافة بالمعنى الاتنولوجي)؛ والأنا يصبح هو المتخيل L’imaginaire، مكان الوهم، والحقيقة، والتغير، والملاحق التجميلية للذات التي هي ملاحق متحركة وهشة. والهو ليس له مكان إلا مجازا فهو المكان الذي ليس له مكان وهو العلة الغائبة للبنية، ويطلق عليه لاكان اسم الواقع Le réel؛ وإنتاجه يقع على مستوى موضوعات الرغبة. وموضوعات الرغبة، بالنسبة لفرويد، موضوعات متعددة، لكنها تابعة لعلاقة أساسية تحكم كل علاقة مع أي موضوع يدعوها لاكان العلاقة بالموضوع. ويذهب لاكان بعيدا في إضفاء صبغة نسقية على الموضوع: فهو يطلق اسم "الموضوع أ الصغيرة" على الموضوع النوعي العام لكل موضوعات الرغبة: الجزئي والمنفصل، والمهمل؛ وهذا الموضوع هو الأثر والعلاقة الدالة على الغربة في قلب الذات، وهو علامة على قطيعة لا رجعية فيها.
الإيديولوجيا والوهم
ظهر لفظ الإيديولوجيا لأول مرة بفرنسا بوصفها علما للأفكار، و يرجع الفضل في نحث المصطلح إلى دستوت دي تراسي إذ ارتبط به إبان الثورة الفرنسية لسنة 1789 ، حيث أعطى لهذا المفهوم مدلولين اثنين و هما:
مدلول فلسفي: اعتبر فيه الإيديولوجيا علما أو شبه علم يقوم على الملاحظة والتجربة كنقيض لتفسير اللاهوت للعالم الذي يعتبره دو تراسي تفسيرا أوليا و طفوليا بينما الإيديولوجيا كما يتصورها تمثل التفكير الراشد و الناضج لارتكازها على الملاحظة والتجربة.
مدلول إبستمولوجي: باعتبارها « العلم الذي يدرس الأفكار بالمعنى الواسع لكلمة أفكار، أي مجموع وقائع الوعي من حيث صفاتها أو قوانينها وعلاقاتها بالعلامات التي تمثلها لاسيما أصلها»، هكذا يبدو أن دو تراسي حاول أن يعطي للإيديولوجيا بعدا علميا باعتبارها نسقا من الأفكار والتصورات البعيدة عن التمثلات اللاهوتية والميتافيزيقية للعالم، فأصبحت الإيديولوجيا بهذا المعنى ضد الأفكار والأطروحات المحافظة، خاصة وأنها ارتبطت بالثورة الفرنسية وما أحدثته من تغير في بناء المجتمع الفرنسي، و انعكاسات هذه الثورة على صعيد الأمم الأوروبية.
تأسيسا على الدلالات السابقة، و ضدا على مفاهيمها نحث نابليون مدلولا جديدا للإيديولوجيا حيث اعتبرها أفكار المشاغبين الذين كانوا ضد حكمه ومن ثمة أخذت معنى انتقاصيا لدلالتها مع دو تراسي إذ أصبح نابليون ينعت خصومه بالإيديولوجيين وذلك في إطار الصراع السياسي مع معارضيه. وفي هذا الصراع و السجال ظهر ما سمي "سجال المصطلحات" أو "الإيديوفوبيا" أي الخوف الشديد من الأفكار، فالأفكار تعبر عن المصالح و المطامح أما لالاند فيعرف الإيديولوجيا بأنها «العلم الذي يتخذ موضعا له دراسة الأفكار، أي العلم الذي يبحث في صفات الأفكار و قوانينها و خاصة أصولها».
تحديدات بول ريكور لمفهوم الإيديولوجيا
يرى بول ريكور أن الإيديولوجيا ترتبط بثلاث استعمالات. يهم الاستعمال الأول معنى الاختلال والتشويه للواقع، و هو المعنى الذي يشيع بين عامة الناس و الذي كان مصدره الماركسية حيث تسند للإيديولوجيا معنى يجعل من الممارسة أساسا لها و أن الإيديولوجيا مصدر التشويه.أما الاستعمال الثاني فربطه بول ريكور بالشكل الذي تظهر فيه الإيديولوجيا كظاهرة تشويهية و تزييفية بل يجعلها بول ريكور في هذه الحالة تبريرية أي أنها تحاول أن تتكلم بلسان الحاكم المسيطر و تشيد الشمولية و حين يبرز العنف داخلها تتحول الايديولوجيا إلى أداة قهر أكثر من المظاهر العنيفة التي تخلفها طاحونة الصراع الطبقي. أما الاستعمال الثالث فيربطه بول ريكور بما أسماه بالإدماج أي أن الجماعة تعمل على استدعاء ذكرياتها الأساسية باعتبارها أحداث أولية مؤسسة للهوية المحددة لهذه الجماعة، فهذا الاستعمال يساهم في تكوين عنصر جديد داخل بنية الذاكرة الجماعية.
إن بول ريكور يهدف من وراء تقسيماته هذه للإيديولوجية إلى تأكيد نقطة محورية لا تنفصل عن عملية الإيديولوجيا نفسها وهي حضور الوهم لتبرير وصفي لاسترداد الذكريات لتحقيق الإدماج.
الإيديولوجيا عند الماركسيين
إن الإنسان عند الماركسيين كائن اجتماعي في جوهره، و بدون المجتمع لا يستطيع الإنسان العيش، إذ لا يمكنه أن ينتج الشروط الضرورية للحياة اللازمة لبقائه إلا في إطار المجتمع،و لكن أدوات ذلك الإنتاج تعود لكي تحدد أول ما تحدد العلاقات الإنسانية. ويرى ماركس استحالة فصل وعي الناس عن وجودهم الاجتماعي و يعطي للحياة الاجتماعية أهمية أساسية تحديد الوعي بل يجعلها هي التي تحدد الوعي.
إن الايديولوجيا، في نظر ماركس و رفيقه انجلز،«ليست سوى التعبير الفكري عن العلاقات السائدة في المجتمع تلك العلاقات التي تجعل من طبقة ما الطبقة السائدة على الطبقات الأخرى». بهذا المعنى فالايديولوجيا مجموع الأفكار الذي تسود المجتمع الطبقي و الذي ترسم بفعل الشروط المادية والروحية القائمة على صورة ناقصة و مشوهة للعلاقات السائدة فيه. يقول انجلز: «الإيديولوجيا هي نشاط فكري ذلك الذي يدعى مفكر واعي في حين أنه إنما يصدر عن وعي زائف مغلوط ذلك لأن القوى الحقيقية المحركة له تبقى مجهولة لديه، وإلا لما كان نشاطه الفكري ذاك إيديولوجيا». إذن هي البناء الفكري النظري القائم على وعي مزيف لكونه يجهل مكوناته الموضوعية.
وقد وسع كل من ماركس و أنجلز فيما بعد مفهوم الإيديولوجيا فجعلاه البنية الفوقية برمتها لعصر من العصور التاريخية أي مجموع النتاج الفكري، من أدب و فن وفلسفة و دين و أخلاق و تشريع بحيث يسود مجتمعا من المجتمعات في عصر من العصور التاريخية.
أما لنين فيميز بين الإيديولوجيا البرجوازية والبرجوازية الاشتراكية، الأولى هي النسق الفكري الذي تقيمه البرجوازية لتخدع به نفسها وتخدع غيرها من الطبقات المضطهدة، والثانية هي المذهب الذي يقود كفاح الطبقة العاملة و تنير لها الطريق و الذي يأتي من الممارسة النظرية ، من المثقفون الثوريون الذين ربطوا مصيرهم بنضال و كفاح الطبقة العاملة.
بينما يميز مانهايم بين الإيديولوجيا الجزئية أو الخاصة، و الإيديولوجيا الكلية أو العامة فالأولى تعني مجموع الأفكار التي يعتنقها الشخص و التي يرى من خلالها حضوره مجرد غطاء شعوري لتحقيق الموقف الذي يصدر عنه، و الذي لا يعبر بصراحة لأنها تعارض مصالحه، فهي بهذا المعنى تبريرية تعمل على صرف النظر عن فحواها. أما الثانية فهي مجموع التصورات التي تعتنقها جماعة ما تبريرا لموقفها داخل المجتمع.
تصور نيتشه للأيديولوجيا
يبرز نيتشه الطابع الأكثر سطحية و سوءا للوعي، بمعنى أن الوعي لدى الإنسان رغم تطوره في المستويات فإنه لا يدرك معنى وعيه لأفعاله وأفكاره ومشاعره، بل حتى حركاته فهو دائما يفعل نتيجة لإرادة قاهرة جاءت في صفة أمر (يجب عليك)، و هو هنا يؤكد مقولة العدمية التي تسيطر على الإنسان، فهو لا يعرف معنى الفكر الذي أصبح وعيا فالوعي عند نيتشه لا يعدو أن يكون أكثر من أجزاء الفكر السطحية و أكثرها سوءا.
إن بالإمكان، حسب نيتشه، أن يعيش الإنسان حياته في استقلال عن الوعي تماما. لما كانت الحياة البشرية معرضة للهلاك بوصفها حياة يؤطرها الصراع من أجل البقاء اضطر الإنسان أن يعبر عن نفسه في كلمات، ومن ثمة يكون نمو اللغة ونمو الوعي متلازمين. هكذا اختلق الإنسان لنفسه أوهاما أصبحت تؤطر حياته وأضفى عليها صبغة حقائق تقنن واقعه (كالواجب والمسؤولية، والحرية …إلخ). فالحقائق في العمق ليست إلا أوهاما منسية.