الخطبة الثانية
الحمد لله الذي شرع لعباده من الطاعات ما يقربهم إلى رضوانه، ويرفع منازلهم في جنانه، والصلاة والسلام على نبي الهدى والرحمة الذي جعل حياته ومماته وماله كله في سبيله، وعلى آله وأصحابه الذين تنافسوا في الخير ونالوه، وتسابقوا إلى البر وحازوه، وعلى من اهتدى بهديهم وعمل بسنتهم إلى يوم الدين.
أما بعد: ألا فليتق الله الواقفون ونظّار الأوقاف وليتحرَ الواقف في وقفه أن يكون مما يتقرب به إلى الله عز وجل مبتعداً عن المبتدعات والمحرمات مبتغياً في وقفه مرضاة الله متبعاً سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم معظماً حرمات الله، وليحذر مما يفعله بعض الواقفين من المقاصد السيئة الذين يجعلون من الوقف ذريعة من حرمان بعض الذرية فيحرمون البنات أو يجعلون القسمة ضيزى بين الذكور والإناث وَلْيَخْشَ ٱلَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّةً ضِعَـٰفاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ ٱللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً [النساء:9]، لقد كثرت هذه المآثم حتى شوهت الأوقاف وأخفت في بعض الأحيان خيراتها ومنافعها.
أما نظّار الأوقاف والمتولون عليها فقد سلطهم الله على هذه الأوقاف ومكّنهم منها، فليتقوا الله فيما عُهد إليهم وما ائتُمنوا عليه من أموال المسلمين، فليحذروا غضب الله وسخطه يوم لا ينفع مال ولا بنون، يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار.
يا نظراء الأوقاف، إن في أعناقكم صغاراً وقصّاراً، وعجزةً وأرامل، لا يحسنون التصرف في الأموال ولا يقدرون على الإحسان في الأعمال بل لعلهم لا يعرفون ما الذي لهم. إن في أمانتكم فقراء في أشد الحاجة إلى سد العَوَز.
أيها المسلمون، إن الخونة من النظّار ومتولي الأوقاف أشد جرماً من اللصوص وقطّاع الطريق، إن اللص يحتال ويسرق من غيره، ولكن هؤلاء يسرقون مما هم مؤتمنون عليه. اللص ضرره على الأحياء، أما هذا فضرره على الأحياء والأموات اللص في الغالب لا يسرق إلا من أهل الثرى والغنى، أما هذا المجرم فيسطو على حقوق الأرامل واليتامى والمساكين، يقطع ما أمر الله به أن يوصل. ما أعظم ذنب الخونة هؤلاء وما أشد وزرهم جعلوا غلاّت الأوقاف نهباً لهم ولمن حام حولهم، فنهبت الأراضي وخرّبت الدور، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وعلى قضاة المسلمين وفقهم الله وأعانهم أو يولوا الأوقاف مزيد عناية في أهلها ومستحقيها وأصولها ونظّارها ومتوليها.
والمسلمون كلهم في الحق متضامنون ومتعاونون وعلى دفع الظلم والإثم متآزرون والجميع غداً بين يدي الله موقوفون وبأعمالهم مجزيون وعلى تفريطهم نادمون وَسَيَعْلَمْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227].
أيها المسلمون، إن مما يوقف مسيرة الأوقاف أن تستمر، بل ويعطل نفعها إذا أصبحت تحت مظلة رسمية. فإن هذا يشلّ حركتها ويقطع نفعها، وإلاّ فأين أوقاف المسلمين مثلاً في بلاد الشام وأرض الكنانة وبلاد أفريقيا، بل أين هي أوقاف المسلمين في تركيا وبلاد الهند والسند وما وراء النهر، كم أوقف تجار المسلمين وأهل الخير منذ مئات السنين أشياء وأشياء في تلكم البلاد، وبقي المحتاجون ينتفعون منها. فأين هي الآن؟ ولماذا تعطلت؟ ولماذا المسلمون في تلكم البلاد بالذات يعانون ما يعانون من الفقر والحاجة؟ السبب أنها أصبحت رسمية والله أعلم أين تذهب غلاتها؟ إليك هذه المعلومة:
كان للمسلمين في أيام الدولة العثمانية أوقافاً عظيمة ومتعددة، كان هناك وقفين كبيرين على تجهيز الفتيات المعدمات اللاتي يصلن إلى سن الزواج. وكان هناك أوقاف تقوم بصرف مرتبات للعائلات الفقيرة غير الأكل، لأن الأكل المجاني كانت له أوقاف خيالية مثل وقف المطاعم الخيرية، أحدها كان يقدم أكلاً مجانياً لعدد يبلغ عشرين ألف شخص يومياً مجاناً، وكان مثل هذا في كل الولايات التابعة للدولة العثمانية. كان المطعم الخيري في جامع السليمانية تبلغ ميزانيته ما يعادل عشرة ملايين دولار تقريباً. هذا مثال واحد فقط، وإلاّ فأوقاف المسلمين في بقية البلدان أشياء خيالية، فأين هي الآن؟
ولذا فليس في صالح أحد السعي لمثل هذا الأمر، ولتبق الأوقاف في أيدي النظّار المؤتمنون ليدعم الوقف مسيرة حركة الأمة.
اللهم رحمة اهد بها قلوبنا، ونسألك اللهم أن تجمع بها ..